وإنَّما قال ﷺ ذلك تواضعًا منه، وإلَّا ففي الحقيقة الحجَّةُ البالغةُ (١) والمنَّةُ له عليهم كما قالوا. (أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالبَعِيرِ) اسما جنسٍ يقعُ كلٌّ منهما على الذَّكر والأنثى (وَتَذْهَبُونَ بِالنَّبِيِّ ﷺ إِلَى رِحَالِكُمْ؟!) ذكَّرهم ما غفلوا عنه من عظيمِ ما اختصُّوا بهِ منه بالنِّسبة إلى ما اختصَّ به غيرهم من عرضِ الدُّنيا الفانيةِ، وسقطَتِ التَّصلية لأبي ذرٍّ (لَوْلَا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ) قالهُ استطابةً لنفوسهم وثناءً عليهم، وليس المرادُ منه الانتقال عن النَّسبِ الولاديِّ؛ لأنَّه حرامٌ، مع أنَّ نسبه ﵊ أفضلُ الأنسابِ وأكرمها، وهو تواضعٌ منه ﵊، وحثٌّ على إكرامِهم واحترامِهم، لكن لا يبلغُونَ درجةَ المهاجرينَ السَّابقينَ الَّذين خرجوا من ديارِهم، وقطعوا عن أقارِبِهم وأحيائِهِم، وحُرِموا أوطانَهُم وأموالهم، والأنصارُ وإن اتَّصفُوا بصفةِ النُّصرة والإيثارِ والمحبةِ والإيواءِ، لكنَّهم مقيمون في مواطنِهم، وحسبُكَ شاهدًا في فضل المهاجرين قوله هذا؛ لأنَّ فيه إشارةً إلى جلالةِ رتبة الهجرةِ فلا يتركها، فهو نبيٌّ مهاجريٌّ لا أنصاريٌّ، وقد سبقَ مزيدٌ لذلك في «فضلِ الأنصار»[خ¦٦٣/ ٢ - ٥٦٥٨].
(وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا) بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة، طريقًا في الجبلِ (لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا) والمراد: بلدهم (الأَنْصَارُ شِعَارٌ) الثوبُ الَّذي يلي الجلدَ (وَالنَّاسُ دِثَارٌ) بكسر الدال وبالمثلثة المفتوحة، ما يجعلُ فوق الشِّعار، أي: أنَّهم بطانتُهُ وخاصتُهُ، وأنَّهم ألصقُ به وأقربُ إليهِ من غيرهم؛ وهو تشبيهٌ بليغٌ (إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً) بفتح الهمزة والمثلثة، وبضم الهمزة وسكون المثلثة، أي: يستأثرُ عليكُم بما لكم فيهِ اشتراكٌ من الاستحقاقِ (فَاصْبِرُوا) على ذلك (حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الحَوْضِ) يوم القيامةِ، فيحصلُ لكم الانتصافُ ممَّن ظلمكم مع الثَّوابِ الجزيلِ على الصَّبر.