للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فكيف يحملُ على غير حسنِ الصَّوت على أنَّ الاستماعَ ينبو عن الاستغناءِ، وينصرُه الحديثُ المرويُّ بلفظ: «ما أذنَ لنبيٍّ حسنِ الصَّوت بالقرآنِ يجهرُ بهِ».

قال الشَّافعيُّ: ولو كان معنى «يتغنَّى بالقرآنِ» على الاستغناء لكان يتغانى (١)، وتحسينُ الصَّوت هو يتغنَّى. وتعقَّبه بعضهم فقال: إنَّ في صدقِ (٢) الملازمةِ نظرًا إذا ثبت أنَّ «تغنَّى» بمعنى استغنى، وصرَّح بعضهُم بصحَّته كما مرَّ، واستشهدَ بقوله في الخيلِ: «ورجلٌ ربطها تغنِّيًا وتعفُّفًا» [خ¦٢٣٧١] ولا خلافَ في هذا أنَّه مصدرُ تغنَّى، بمعنى: استغنى وتعفَّف، ونقل ابنُ الجوزيُّ عن الشَّافعيِّ: أنَّ المراد به التحزُّن، قال في «الفتح»: ولم أرهُ صريحًا، إنَّما قال في «مختصر المزني»: وأحبُّ أن يقرأَ حدرًا وتحزينًا. انتهى.

والحدرُ: الإدراجُ من غير تمطيطٍ، والتَّحزين: رقَّة الصَّوت وتصييره كصوتِ الحزين. وقال ابنُ الأنباريِّ في «الزَّاهر»: المراد بالتَّغني التلذُّذ به، كما يستلذُّ أهل الطَّرب بالغناءِ، فأطلق عليه تغنِّيًا من حيثُ إنَّه يفعل عنده كما يفعلُ عندَ الغناء، وقيل: المرادُ التَّرنُّم به؛ لحديثِ ابن (٣) أبي داود والطَّحاوي عن أبي هُريرة: «حسنُ التَّرنُّم بالقرآنِ».

قال الطَّبريُّ: والترنُّم لا يكون إلَّا بالصَّوت إذا حسَّنه القارئُ وطرب به، قال: ولو كانَ معناه الاستغناءَ لما كان لذكرِ الصَّوت ولا لذكرِ الجهر معنى. انتهى.

ويمكن -كما في «الفتح» - الجمع بين أكثرِ التَّأويلاتِ المذكورةِ، وهو أنَّه يحسِّن به صوته جاهرًا به مترنِّمًا على طريق التحزُّن، مستغنيًا به عن غيرهِ، طالبًا بهِ غنى النَّفس، راجيًا به غنَى اليد.

ومباحثُ تحسين الصَّوتِ، وحكمِ القراءةِ بالألحان، تأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.


(١) في (س) و (ل): «لقال يستغني».
(٢) في (م): «صدوق».
(٣) «ابن»: ليس في (م).

<<  <  ج: ص:  >  >>