للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والخواصر، وكان يوماً من أعظم الأيام، وساعة يشيب من هولها رأس الغلام، لأن الدماء كانت تسيل كالمطر، والجثث تتساقط على الأرض كأوراق الشجر، والسهول والتلال، تهتز من ضجيج الرجال، وأصوات المدافع التي تزعزع الجبال، حتى خيل للنظار، في ذلك النهار، أن الساعة اقتربت، والأرض ارتجت واضطربت، والسماء غابت واحتجبت، والمدينة احترقت وانقلبت، ولقد أحسن المقال، وصدق من وصف عكا في ذلك وقال:

قد قيل أن جهنماً تحت الثرى ... مالي أراها فوق عكة تضرم

لو لم تكن دار الشقاوة عكة ... ما أضرمتها بالشرار جهنم

واستمرت تلك المعاركة، والمهاجمة المتداركة، من الصباح إلى بعد العصر، حتى هبت ريح النصر، وكانت قد كلت جموع عبد الله باشا، وانحل عزم نشاطها وتلاشى، وعجزت عن حماية البلد، ولم يعد لها أدنى ثبات ولا جلد، فألقوا سلاحهم، وسلموا أرواحهم، خوفاً من حلول البوار، ونزول الدمار، وطلبوا لأنفسهم الأمان، واختاروا الأسر والهوان، وانصبت العساكر المصرية كالسباع، واندفعوا على البلد أشد اندفاع، بقلوب لا تخشى الموت ولا ترتاع، وتسلموا باقي الأبراج والقلاع، واستولوا على مدينة عكا عنوة وقهراً، بعد انحصار سبعة أشهر براً وبحراً، وتسلم إبراهيم باشا زمام تدبيرها، وقبض على عبد الله باشا وزيرها، وألقاه تحت الحفظ والترسيم، بعدما وبخه على فعله الذميم، وسلوكه الغير المستقيم. وفي اليوم الثاني وهو يوم الأحد، نزل في قصر البهجة خارج البلد، وهو أحد القصور، المختص بعبد الله باشا المذكور، ولما استقر في ذلك المكان، خرج إليه الأكابر والأعيان، وطلبوا منه الأمان، فأجابهم إلى ذلك الشان، وعاملهم باللطف والإحسان، ثم أمر

<<  <   >  >>