الآية التاسعة والثمانون بعد المائة: قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى}[البقرة:١٨٩].
سبب نزول هذه الآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية: أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا: (يا رسول الله! ما بال الهلال يطلع دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟) أي: أن الصحابة رضي الله عنهم يسألون: لم يبدو الهلال في أول الشهر دقيقاً مثل الخيط، ثم لا يزال يكبر ويزيد حتى يستدير، ثم يرجع فينقص ويستدق حتى يكون كما بدأ، ولا يكون على حال واحدة؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية ليبين العلة التي من أجلها خلق الله الأهلة:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[البقرة:١٨٩] يعني: أن الله عز وجل يوجههم إلى السؤال الأوفق والأنسب؛ لأن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء ليشرح الظواهر الطبيعية، وإنما جاء ليهدي الناس، وهذا ينطبق الآن على كثير من الناس ممن يطرحون أسئلة ليس فيها كبير فائدة، فبعض الناس ربما يقرأ قول الله عز وجل:{فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}[البقرة:٧٣]، فيسأل ما هو البعض الذي ضرب به قتيل بني إسرائيل؟ ويقرأ قصة أصحاب الكهف فيسأل عن عدتهم كم كانوا؟ مع أن الله تعالى قال:{قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ}[الكهف:٢٢]، ويسأل عن لون الكلب الذي كان معهم.
وإذا قرأ قول الله عز وجل:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ}[الشعراء:٦٣] يقول: هذه العصا من أي خشب كانت؟ وإذا قرأ قول الله عز وجل:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}[هود:٤٤]، قال أين الجودي؟ وسفينة نوح كم كان طولها؟ وكم كان عرضها؟ فهذه كلها أسئلة لا تؤدي إلى فائدة، ولو كان العلم بهذه التفاصيل مؤثراً لذكرت في القرآن.
فهنا الله عز وجل يرشدنا إلى السؤال المناسب، وإلى العلة الصحيحة، مثلما قال في آية أخرى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:١٠١].
وقول الله عز وجل:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}[البقرة:١٨٩]، كانت للعرب في الجاهلية عادات ما أنزل الله بها من سلطان، ومن ذلك: أن الواحد منهم إذا أحرم بالنسك فلا يدخل إلى بيته من الباب، وإنما لا بد أن يتسوره، ويعتقدون بأن هذا من التقوى، ثم إذا ذهب فقضى نسكه ورجع أيضاً لا يدخل من الباب، وإنما يأتي من ظهر البيت، فأنزل الله عز وجل يقول:((وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)) أي: ليس البر في هذه الأشكال، ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى))، كما مر معنا قول الله عز وجل:{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}[البقرة:١٧٧].
فمن الخطأ أن يخترع الإنسان طقوساً ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا موجود الآن، فتجد المرأة مثلاً إذا توفي عنها زوجها فإنها تخترع طقوساً، مثلاً: قالت الشريعة للمرأة: يا من توفي عنك زوجك، لا تكتحلي، ولا تتخضبي، ولا تتطيبي، ولا تتحلي، ولا تلبسي ملابس الزينة، فزادوا من عندهم أنه لا بد لها أن تلبس الأبيض، ولا بد أن تجلس على ملاءة بيضاء، ولا بد أن تجلس في غرفة، أو في برندة، ولا ينفع أن تقعد في الحوش، ولا يصلح أن تتكلم مع أحد عند طلوع الشمس وعند غروبها، وأن تستقبل الشمس عند شروقها وغروبها؛ فإذا انقضت العدة أربعة أشهر وعشر ذهبوا بها إلى البحر كما يوجد في بعض الأقاليم، فهذا كله ما أنزل الله به من سلطان.
ومثلما اخترعوا الطقوس في العرس، وأنه لابد من الحناء، وأنه إذا لم يتحنَ فلن يولد له ولد، ونحن لم نتحن وعندنا جيش من البنين والبنات والحمد لله، فهذه كلها طقوس ما أنزل الله بها من سلطان اخترعها الناس، ثم اعتقدوا بأنها دين يجب التمسك به والعض عليه.