للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الأمم المقسم عليها في سورة الفجر]

وقد أقسم ربنا جل جلاله بالفجر، {وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ * وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:٢ - ٤] أي: إذا ذهب ومضى، كما قال سبحانه: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير:١٧].

{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر:٣٣ - ٣٤].

وهذه الخمسة أقسم بها ربنا جل جلاله ثم قال: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:٥]، الحجر: هو العقل، وسمي حجراً؛ لأنه يحجر الإنسان ويمنعه عن تعاطي ما لا يليق من الأقوال والأفعال، ومنه سميت الحجرة حجرة؛ لأنها تحجر وتحجز ما بداخلها.

{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} يعني: أيها المشركون! إذا كانت لكم عقول فتأملوا في هذه الخمسة التي ذكرها ربنا جل جلاله، ثم إن المشركين كانوا معجبين بقوتهم، وكانوا يدلون على الله عز وجل بغناهم وأموالهم، فالله عز وجل ذكر لهم خبر ثلاثة من الأمم قبلهم كانوا أهل قوة وغناء، وأهل يسار وسعة فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:٦ - ٧] وعاد: هي القبيلة العربية التي أرسل الله إليها هوداً عليه السلام، وكانوا عتاة جبارين متمردين على أمر الله، مكذبين لرسله، جاحدين لكتبه، وكانوا أهل كبر وعتي، يقولون: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت:١٥]، ونبيهم عليه السلام قال لهم: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:١٢٨ - ١٣٠] أتبنون بكل مكان مرتفع بناية كبيرة لمجرد العبث لا للسكنى، يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويأملون ما لا يدركون، هذه قبيلة العماد: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:٧] وإرم: هو جدهم الأكبر، ذات العماد: كانت لهم أعمدة وأبنية كما حكى ربنا عنهم في القرآن: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء:١٤٩] وهذا حالهم.

{الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:٨]، وتأملوا هذه الأوصاف فإنكم تجدونها تنطبق على الدولة المتكبرة على الناس اليوم.

ثم الأمة الثانية: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:٩] وقبيلة ثمود: قبيلة عربية، أرسل الله إليهم صالحاً عليه السلام، وجابوا: أي: قطعوا، ومنه قولهم: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها جيئة وذهاباً، ومنه سميت الجيب جيباً، أي: وقطع الذين جابوا الصخر بالواد هؤلاء أيضاً، كما قال لهم نبيهم صالح عليه السلام: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} [الأعراف:٧٣ - ٧٤]، فقد كانوا يصنعون من الجبال بيوتاً قوية محكمة.

{وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ} [الفجر:١٠] وفرعون: هو اللئيم الذي قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:٢٤]، {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى} [غافر:٢٩]، {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:٣٨].

وقد قيل: ذو الأوتاد: أي: الجيوش الكثيرة التي تشيد ملكه وتدفع عنه، وقيل: كان يدق أوتاداً في الأرض ويشد إليها من خالفوه حتى يموتوا، مثلما هدد موسى عليه السلام: {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:٢٩].