للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر)]

قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:١] إنا: ضمير العظمة، كما في قول ربنا تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:١]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان:٣]، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [النساء:١٠٥] وهذا في القرآن كثير.

يقول العلامة الطاهر ابن عاشور: وضمير العظمة هذا مشعر بالامتنان بعطاء عظيم، والكلام مساق البشارة بخير آت، لا مساق الإخبار بخير مضى.

والكوثر كما فسره عكرمة ومقاتل بأنه القرآن، وقال أبو بكر بن عياش: إنه الإسلام، وقال الحسن البصري: النبوة، وقال الماوردي: الشفاعة، وقيل: كثرة الأمة، أي: كثرة أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنَّ معنى الكوثر هو: الخير الكثير، الذي من جملته النهر، والحوض، والشفاعة، والنبوة، والقرآن، والإسلام، وكثرة الأمة والأتباع والأنصار وغير ذلك.

وكلمة الكوثر على وزن فوعل، وفوعل في لغة العرب غالباً من الأسماء الجامدة كالكوكب والجورب والحوشب؛ وتكون أيضاً اسماً مشتقاً للشيء الكثير، فمثلاً من كان كثير الخير والنسل والعطاء يقال له: نوفل، وأحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه: نوفل، وكذلك من كان شجاعاً مقداماً يقال له: جوهر، ومنه قول الكميت يمدح عبد الملك بن مروان: وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن الفضائل كوثراً أي: كثير الخير.

والخير الذي وهبه الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما فيما مضى من السور كثير، فمثلاً: نجد في سورة الضحى قول الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:٥]، وفي سورة الشرح نجد من الخير شرح الصدر، ورفع الذكر، وحط الوزر، وتيسير الأمر، ونجد بعدها في سورة التين أن الله جعل بلده البلد الأمين، وجعل لأمته أجراً غير منون أي: غير مقطوع، ثم بعدها في سورة العلق: علمه الله ما لم يعلم، وأنزل عليه كتاباً لا يمحوه الماء، يقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم بعدها سورة القدر، أعطاه الله ليلة خيراً من ألف شهر، ثم بعدها سورة البينة جعل الله أمته خير البرية، ثم في سورة الزلزلة بشرنا ربنا بأنه سيجعل في موازيننا مثقال الذر من الخير، ومثاقيل الشر يكفرها الله عز وجل بما يصيبنا مما نكره، من مرض أو ضيق أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات، ثم في بعدها من السور امتن الله عز وجل امتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بخير كثير، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأوتيت جوامع الكلم، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة)، وهذا كله من الخير الذي أعطاه الله إياه والمذكور في قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}.