روى الإمام أحمد والشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي حبة البدري الأنصاري رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي بن كعب: يا أبي! إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة، فقال أبي رضي الله عنه: وقد سماني لك يا رسول الله؟! قال: نعم، فبكى أبي رضي الله عنه، قال له بعض الصحابة: أفرحت يا أبا المنذر! قال: ومالي لا أفرح والله عز وجل قد قال: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس:٥٨]).
قال الإمام القرطبي رحمه الله: وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي؛ ليعلم الناس التواضع، ولئلا يأنف العالم عن القراءة على من هو دونه، أو أقل منه.
قال ابن كثير رحمه الله: والسبب -والله أعلم- هو ما رواه النسائي وغيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه:(أنه سمع عبد الله بن مسعود يقرأ قراءة أنكرها غير التي أقرأه إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونحن نعرف اختلاف القراءات كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:١٩٣] أو: (نزّل به الروح الأمين) أو بعض الناس يقرأ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:٤]، وبعض القراء يقرأ:(ملك يوم الدين) وبعضهم يقرأ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ) [الفاتحة:٦] بالصاد، وبعضهم يقرأ (اهدنا السراط)، وبعضهم يقرأ بالإشمام بين الصاد والسين، وكلها قراءات متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(فـ أبي رضي الله عنه سمع من ابن مسعود قراءة أنكرها، فقال له: ما هكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال له ابن مسعود: ولكن أقرأنيها هكذا، فذهب أبي مع ابن مسعود يتحاكمان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يا أبي! فقرأ وقال: اقرأ يا ابن مسعود! فقرأ، فقال: كلاكما أصاب يقول أبي رضي الله عنه: فدخلني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدري ففضت عرقاً كأني أنظر إلى الله فرقاً، وأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه فقال: يا محمد! إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقلت: أسأل الله معافاته ومغفرته، فقال: على حرفين، فلم يزل حتى قال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف) والسبعة أحرف هذه كلها داخلة في لغة قريش، وكلها داخلة في القراءات المتواترة العشر التي يقرأ بها جماهير المسلمين في المشارق والمغارب.
يقول ابن كثير رحمه الله: قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على أبي كانت قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار لا قراءة تعلم واستذكار.
فالله عز وجل يتولى الصالحين، ولما كان أبي رجلاً صالحاً عبداً لله قانتاً حنيفاً؛ فالله عز وجل لم يتركه للشكوك والأوهام والشبهات، بل قيض له من ضربة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن قراءته عليه الصلاة والسلام ما زاده إيماناً ويقيناً.