للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى (الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)]

قال تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٤]، ثم ذكر سبحانه سبب هذه العبادة، كما قال في سورة البقرة: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة:٢١] إلى أن قال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:٢٢]، وهنا أيضاً: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٣ - ٤].

ومن هنا بدلية، والمعنى: الذي أطعمهم بدل الجوع، وآمنهم بدل الخوف، وفي الجمع بين النعمتين دليل على أن إحداهما لا تغني عن الأخرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) فلو كان الإنسان عنده أموال كثيرة، ولم يكن عنده أمن، فليس للأموال أي قيمة، ولو كان آمناً وليس معه شيء من القوت؛ فليس للأمن أي قيمة، فلابد من الجمع بين النعمتين، ولذلك من كفر بالله سلط الله عليه العذابين، الجوع والخوف قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:١١٢]، وقد فعل الله ذلك بأهل مكة لما أصروا على الكفر، وحاولوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما آذوه في بدنه وفي عرضه وفي أصحابه، فخرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، ودعا عليهم: (اللهم! اجعلها عليهم سنيناً كسني يوسف) أي: سبع سنوات عجاف، لا تنزل السماء قطرة، ولا تنبت الأرض حبة، فأكلوا الأدم وهي الجلود، وأكلوا البعر من شدة الجوع، وكان الواحد منهم ينظر إلى السماء فيخيل إليه أن بينها وبينه دخاناً مبيناً من شدة الجوع والجهد، فأرسلوا يستغيثون بالرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد! جئت تأمر بصلة الرحم، ادع الله أن يغيثنا، فدعا الله فرجعوا إلى الكفر، مثلهم مثل فرعون اللئيم عدو الله، الذي أرسل الله عليه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وكل مرة كان يقول لموسى: ادع لنا ربك، ومرات يستخدم ألفاظ تدل على شحة في الأدب فيقول: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف:٤٩]، فكان موسى عليه السلام يدعو الله عليهم بالطوفان، فيقول فرعون: أنا ربكم الأعلى وقد أمرت النيل فهبط، وبعد قليل أرسل الله عليهم الضفادع، فكانوا يرونها في جيوبهم وفي غرفهم وفي فرشهم وفي أي مكان يتواجدون فيه، فكان الواحد من الفراعنة يطبخ طعاماً فيلقاه كله ضفادعاً، ويطبخ دجاجة فيلقاها ضفادع، فيدعو موسى الله عز وجل أن يرفع عنهم الضفادع فيستجيب الله له ويقول فرعون للناس: أرأيتم؟ حتى بلغ به السخف أنه لما فلق الله البحر لموسى، التفت إلى جنوده وقال: أرأيتم ما صنعت بالبحر من أجل أن أتبع عبيدي هؤلاء الآبقين؟ وهو دجل وكذب وضلال، فكانت النتيجة أن الله عز وجل لما خرج آخر واحد من قوم موسى كان آخر واحد من جنوده قد دخل، فأمر الله البحر فعاد كما كان، فأهلكهم الله جميعاً.

وخلاصة القول أن الإنسان إذا أراد أن تدوم عليه نعمة الله، فالواجب عليه أن يعبد المنعم جل جلاله، لذلك قال ابن القيم رحمه الله: هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم أليس من الواجب المستحق حياء العباد من المنعم أي: افرض أنه لا يوجد بعث، ولا جنة ولا نار، وبعد هذا كله كان الواجب علينا أن نعبد الله، فإن الواحد من الناس لو أسدى إليك معروفاً، وهو لا يملك جنة ولا ناراً، فأنت تشعر نحوه بالامتنان وتستحي منه، وتدعو له، وتترفق معه في الكلام، فما بالكم بالله رب العالمين: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:٤]، {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:٢٠]، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم:٣٢ - ٣٤]، و {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:٧٢]، و {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) [النحل:٨٠].

فلو جلسنا نعدد نعم الله ما استطعنا عدها، فالإنسان صاحب الوجه الكالح الذي يتكبر، الذي لا يسجد لله ولا يركع له، الدواب العجماوات خير منه بنص القرآن: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:٢٢]، وإذا كان الإنسان يعيش فقط في هذه الدنيا من أجل أن يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينكح فإن الدواب خير منه؛ لأنها تعرف الله، أما هذا فهو يأكل وما سمى الله، ويشبع وما حمد الله، ولا يركع ولا يسجد لله عز وجل، فهو من أمثال أبي جهل، وأبي لهب، وعقبة، وعتبة، والوليد، والعاص بن وائل فإن الله عز وجل توعد أمثال هؤلاء في هذه السورة بالجوع والخوف.