للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكفار لا يردعهم إلا حق تحرسه القوة]

المسألة الثالثة: دلت هذه السورة على أن الناس لا يحترمون إلا من كان عنده حق تحرسه القوة، ومن ظن أن الناس سيحترمونه لأنه حلو اللسان، أو لأنه طيب المعشر، أو نحو ذلك -وأعني بالناس الكفار- فهو واهم، إذ الكفار لا يردعهم إلا حق تحرسه قوة.

ويدل على ذلك: ما قاله الحسن البصري رحمه الله: لما فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قالت العرب: أما إذ ظفر بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لنا به يدان، فجاءوا أفواجاً فوجاً إثر فوج يعلنون إسلامهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فسبب دخولهم في الإسلام هو فتح مكة، قالوا: مكة حمى الله أهلها من أصحاب الفيل وكانوا في جيش قوي من الأحباش، ثم فتحها محمد صلى الله عليه وسلم ودخلها في عشرة آلاف فارس، قالوا: فما لأحد به قوة ولا طاقة، فجاءوا مسلمين.

ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: لما فتحت مكة جاءت أحياء العرب مسلمة، وذلك أنهم كانوا يتلومون بإسلامهم، يتلومون يعني: ينتظرون ويتريثون، يقولون: إذا ظهر على قومه وغلبهم فهو نبي.

هذه هي العلامة.

ولذلك جاءت الوفود بعد ذلك حتى سمي العام التاسع عام الوفود، ولا تظنوا أن مجيء الوفود كان أمراً سهلاً هيناً على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد دخل مع بعضهم في مفاوضات شاقة عسيرة دلت على أن القوم ما فهموا الإسلام بعد.

وأذكر لكم مثلاً لذلك: جاء وفد ثقيف -وهم الذي ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورجموه بالحجارة وأسمعوه كلاماً سيئاً- على رأسهم عبد يا ليل بن عمرو وفيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، فجاءوا فقال المغيرة بن شعبة: يا رسول الله! دعني أكرم قومي، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما أمنعك من أن تكرمهم، ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن، فضربت لهم خيام في المسجد بحيث يسمعون القرآن ويشاهدون الصلاة لعلهم يتأثرون، فمكثوا أياماً، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: جئناك لتقاضينا، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أسلمتم أقاضيكم، أي: إذا حصل الإسلام بعد ذلك يحصل بيننا مفاوضة، أما لو لم تسلموا فلا مقاضاة ولا صلح، فارتفع القوم، يعني: انفضت جلسة المحادثات وذهبوا يتشاورون، فقال بعضهم لبعض: إنا نخشى يوماً كيوم مكة فلنرجع إلى الرجل، قالوا له: نسلم ولكننا -بدأت الشروط- قوم نغترب ولابد لنا منه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله؛ فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:٣٢].

قالوا: فالخمر فإنها عصير أرضنا، والطائف كلها عنب وتمور، قال: لا والله فإن الله يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ} [المائدة:٩٠]، إلى أن قال: {فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:٩٠].

قالوا: فالربا فإنه أموالنا كلها، قال: لا والله لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، فإن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة:٢٧٨]، فارتفعوا، وذهبوا وتشاوروا ثم جاءوا، فقالوا: نسلم ولكن ماذا نصنع بالربة -مؤنث الرب- وكان عندهم اللات صنم يجللونه ويكسونه كما يكسى البيت الحرام، فقالوا: ما نصنع بالربة؟ أي: اللات مؤنث الله، فقال: تهدم، قالوا: هيهات هيهات، والله لو علمت أنها تهدم لأهلكت القوم.

وكان عمر بن الخطاب يسمع فما صبر، وقال: يا ابن عبد يا ليل ما أجهلك! حتى متى لا تعقل؟ إنها حجارة لا تضر ولا تنفع، فقال: ما جئنا لنكلمك يا ابن الخطاب.

يعني: خليك في حالك، ثم قالوا: يا رسول الله! تول أنت هدمها فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً، ثم قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا قبل رسولك، فنحن أعرف بقومنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لنجابته وحرصه على العلم.

فلما بلغ القوم مشارف بلاد ثقيف تقنعوا على هيئة المكروب المحجول، فقالت ثقيف: ما جاء الوفد بخير، وكان عبد يا ليل رجلاً عاقلاً، فقال لهم: أنا أعرف بالقوم فإنا لو أخبرناهم أنا قد صالحنا الرجل أبو، فجاءوا محجولين مكروبين ونزلوا عند اللات، عند الصنم ذاته، فقال القوم: لعله قد طال العهد بها، جاءوا يسلمون، ثم بعد ذلك قالوا: ما جئتم به؟ قالوا: جئنا من عند رجل فظ غليظ قد دوخ العرب ودان له الناس يقتل بغير حساب، وإنه قد عرض علينا أموراً أبيناها، عرض علينا أن نذر الربا، وأن نترك الزنا، وأن نمنع الخمر؛ فأبينا عليه ذلك كله، قالوا: نعم، والله لا يكون ذلك، قالوا: إذاً تجهزوا للحرب، هيئوا سلاحكم، ورمموا حصنوكم، وتهيأوا لحرب محمد، فذهب القوم ثلاثة أيام يجهزون، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، فجاءوا قالوا: هلا رجعتم إلى محمد فصالحتموه، فقال: عبد يا ليل قد فعلنا فاقبلوا من الله عافيته.

الحمد لله هذا الذي حصل والأمر تم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفداً فيه خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة من أجل أن يهدموا اللات، فخرج القوم جميعاً رجالاً ونساءً وتحصنوا، وقالوا: ستمتنع اللات من هادميها وستطبش بهم، فقال المغيرة -وهو ثقفي- لـ خالد بن الوليد ولمن معه: دعوني أضحككم من ثقيف، فأخذ الكردين -الفأس- ثم ضربها، ثم ألقى به وبقى يتلبط في مكانه -يرفس- فقال القوم: أبعد الله المغيرة، قتلته اللات، هلم من كان منكم جريئاً فليفعل، يعني: يتحدون الباقي، فقام المغيرة رضي الله عنه وقال: يا قوم! حتى متى لا تعقلون؟ سأريكم، وبدل ما كان يضرب قدمه صعد فوق رأسه وبدأ يهشمه من فوق إلى أن أتى عليه كله، ثم تتابعت بعد ذلك وفود العرب كلهم فأسلموا.