[الالتفات لحاجة في الصلاة]
في الحديث: (صلى عليه الصلاة والسلام بالناس شاكياً فقعد فأحس عليه الصلاة والسلام بالناس من خلفه يصلون قياماً فالتفت عليه الصلاة والسلام وأشار إليهم أن يجلسوا)؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علمنا أن الإمام يقتدى به، وقال: (فإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين) وعند المالكية لا يصلي أحد قاعداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن شروط الإمام عندهم أن يكون قادراً على الأركان كالمأموم.
فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم التفت لحاجة، فهذا الدليل الأول على جواز الالتفات للحاجة.
الحديث الثاني: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهما، فحضرت الصلاة ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم بلال أبا بكر ليصلي للناس، فتقدم أبو بكر، فلما افتتح صلاته قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الناس يتنحنحون، وكان أبو بكر لا يلتفت، فلما أكثر الناس من التنحنح التفت رضي الله عنه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه أن مكانك -يعني واصل صلاتك إماماً- فحمد أبو بكر ربه، ثم رجع القهقرى وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتم بالناس الصلاة، فلما انصرف قال لـ أبي بكر: ما منعك أن تمكث إذ أمرتك)، وهذا اقتباس من القرآن، فقال أبو بكر: ما كان لـ ابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهنا أبو بكر التفت لحاجة.
الحديث الثالث: حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم ثوب بالصلاة) يعني: أقيمت الصلاة، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أذن المؤذن ولى الشيطان وله ضراط، فإذا فرغ رجع، فإذا سمع التثويب -يعني: الإقامة- ولى وله ضراط ثم رجع)، قال: (ثوب بالصلاة -يعني: صلاة الصبح- فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتفت يصلي وهو يلتفت إلى الشعب، وكان عليه الصلاة والسلام قد أرسل رجلاً حارساً قبل شعب من الشعاب في المدينة) يعني: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حال خطر في غزوة من الغزوات، فدل ذلك على أن الالتفات في الصلاة إذا كان لحاجة فلا كراهة.
ومن الالتفات للحاجة إذا وسوس لك الشيطان في الصلاة، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى الاستعاذة، وأن يتفل أحدنا عن يساره ثلاثاً، هكذا نفخ من غير ريق، لحديث عثمان بن أبي العاص الثقفي في صحيح مسلم قال: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن الشيطان قد لبس علي صلاتي فلم أدر كم صليت، فقال صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له: خنزب)، هذه بالمثلثة يعني: خَنْزب، وخُنْزب، وخِنْزب وعلى الأحوال الثلاثة عليه لعنة الله سواء كان بالفتحة أو بالضمة أو بالكسر، قال: (ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسسته في صلاتك فاتفل عن يسارك ثلاثاً واستعذ بالله منه، قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني).
وفي الحديث السابق أبو بكر استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ما كان لأحد أن يتقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا تخصيص بالحال، أما أنا مثلاً أصلي بالناس، ومرة التفت فأجد خلفي أعظم علماً، وأكبر سناً، وأفضل وأجدر، فلا يشرع أن أقدمه وقد دخلت في الصلاة.
مثال آخر للالتفات للحاجة، في حالة الحرب تضطر إلى الالتفات ومراقبة العدو، وقد مر معنا الآن حديث سهل بن الحنظلية.
مثال آخر: طبيب يلازم المريض، والمريض حالته حرجة، فهو يصلي وينظر إلى الجهاز ويتتبع تخطيط القلب، فهذا التفات لحاجة، ولو حصل خطر يقطع الصلاة، ثم يستأنفها من جديد، فإذا تزاحمت الواجبات يقدم الأهم فالمهم، كما لو كنت تصلي فرأيت أعمى يسير نحو هاوية مثلاً، أو رأيت طفلاً يسير نحو كهرباء مكشوفة أو نار؛ فتقطع الصلاة، وتنقذ هذه النفس، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:٣٢].
قد يقول قائل: كيف خالف أبو بكر أمر الرسول له بالبقاء في الصلاة؟
الجواب
الشافعية يقولون: الأدب مقدم على الأمر، واستدلوا بقصة أبي بكر عندما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمكث في مكانه ويتم الصلاة، لكن أبا بكر رجع، وكذلك قصة علي رضي الله عنه لما كتب بسم الله الرحمن الرحيم فقام سهيل بن عمرو وقال له: ما نعرف الرحمن الرحيم، اكتب باسمك اللهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (امحها يا علي!) فـ علي رضي الله عنه محاها، ولما كتب: هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو قال له: لو نعرف أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب محمد بن عبد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (امحها يا علي، فقال: والله لا أمحوها، فمحاها صلى الله عليه وسلم بيده)، لكن لا يخفى عليكم أن كلام الشافعي رحمه الله في هذا الأمر مرجوح؛ لأن الصلاة جعلت لتعظيم الله عز وجل، فلا يناسب أن يسود فيها محمد صلى الله عليه وسلم، وهو سيدنا بلا شك، ولا خلاف في هذا بين أهل الإسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، بل يوجد من دونه من هو سيدنا كما قال عمر: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، وهو بلال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يا معشر الأنصار! قوموا إلى سيدكم فأنزلوه) أي سعد بن معاذ، ولما قال سعد بن عبادة في الحديث: أهكذا نزلت يا رسول الله؟! قال: (أما تسمعون ما يقول سيدكم؟!)، لكن في الصلاة ما نقول: سيدنا، يوجد مسجد هنا في أم درمان دخلت للصلاة فيه فسمعت المؤذن وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن سيدنا محمد رسول الله، ويكررها! فهذا يفتح باب الابتداع، أنت قلت: سيدنا، وأنا بكرة آتي وأقول: أشهد أن سيدنا ومولانا محمداً رسول الله، وبعد بكرة يأتي واحد يقول: أشهد أن سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد رسول الله، والأذان يزداد يوماً بعد يوم كأنه مطاط!