للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من يؤمر بإعادة الصلاة؟]

النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي الذي لم يحقق شرط الطمأنينة أن يعيد الصلاة، ولم يأمر معاوية بن الحكم الذي تكلم في الصلاة بالإعادة، مع أن هذا ارتكب مبطلاً والآخر ارتكب مبطلاً، فما الفرق؟ هذا محمول على أن معاوية بن الحكم كان حديث عهد بالتشريع الذي منع فيه الكلام في الصلاة؛ لأنهم في أول الأمر كانوا يتكلمون، فـ معاوية تكلم بناء على الأصل وهو إباحة الكلام، فجاء دليل رافع لهذا الأصل وهو قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨].

قال الراوي: [فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام] ومعاوية ما كان يعرف هذا فتكلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم عذره لحداثة عهده؛ ولأنه لم يعلم بهذا التشريع.

ومثل هذا عندما صلى المسلمون في قباء مستقبلين بيت المقدس، وكانت الآية قد نزلت: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤]، ولما جاء من يبلغهم كانوا قد أتموا ركعتين فقال لهم: نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:١٤٤]، فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال وأكملوا الركعتين الأخيرتين وهم مستقبلون المسجد الحرام، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بالإعادة رغم أن صلاتهم كانت بعد نزول الآية، لكن الآية لم تبلغهم.

والإمام الشوكاني رحمه الله ذكر جواباً آخر وهو أن الأعرابي أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة صراحة: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ونقل إلينا، أما معاوية فإنه لم ينقل إلينا أنه أمره بالإعادة، وعدم حكاية الأمر بالإعادة لا يستلزم عدم الأمر بها، يعني: راوي الحديث ما نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا معاوية! أعد الصلاة، لكن نقل إلينا أنه قال له: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح وقراءة القرآن) وعدم العلم ليس علماً بالعدم، فمثلاً قال عبد الله بن عباس: الرسول صلى الله عليه وسلم ما صلى في جوف الكعبة، غاية ما عنده أنه ليس عنده علم، ولا يستلزم هذا العلم العدم؛ لأن بلالاً رضي الله عنه أثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة.

فهذا جواب آخر ذكره الإمام الشوكاني رحمة الله عليه، وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أصل وهو هل يعذر الجاهل بالجهل أو لا يعذر؟ فبعض العلماء قالوا: يعذر، وبعضهم قال: لا يعذر.

ومسألة الكلام في الصلاة فيها مسائل كثيرة، مثل من تكلم بآية يقصد جواب مخلوق فصلاته باطلة، كمن يستأذن عليه أحد وهو يصلي فيقرأ قوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:٤٦]، أو جاء رجل اسمه نوح، فأزعجك وأنت تصلي فتقول: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود:٣٢]، ولكن بعض العلماء يقولون: لا تبطل صلاته، لأنه في حقيقة الأمر قرأ آية، واستدلوا بأن علياً رضي الله عنه بينما كان يصلي جاء رجل من الخوارج ممن ساء أدبهم وقل علمهم فقال له: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:٦٥]، فهم كانوا يتهمون علي بالكفر، فـ علياً رضي الله عنه أجابه على البديهة هكذا: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:٦٠]، وقصد بذلك جوابه، لكن في مسائل الخلاف الورع يقتضي أن الإنسان يخرج من الخلاف، فلا يفعل شيئاً يجعل صلاته عند البعض صحيحة، وعند البعض باطلة.