للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير قوله تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت)]

قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش:٣] أي: يا أهل مكة! يا من أطعمكم الله وآواكم! يا من كفاكم وأغناكم! مع أن بلادكم بلاد جوع وسنة ومخمصة، الواجب عليكم أن تعبدوا هذا الرب الكريم.

وهذه المنة قد تكررت، قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:٥٧]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:٦٧] أي: من حولهم غارات سلب ونهب وحرب وقتل، وهم آمنون.

((فَلْيَعْبُدُوا)) وهذا هو الواجب عليهم أن يعبدوا هذا الرب الكريم؛ لأنه تأذن بالزيادة لمن شكر، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:٧]، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، الله عز وجل هو رب البيوت كلها جل جلاله، لكن الإضافة هنا للتشريف، كما قيل في: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:٦]، والنار كلها لله، وكما قيل: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس:١٣] والنوق كلها لله، لكن الإضافة للتشريف والتعظيم.

فالبيت الحرام بيت جليل وعظيم، حرمه الله وسمى بلده مكة؛ لأنها تبك من ظلم فيها، وتدق عنقه، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:٢٥]، أعتق الله البيت الحرام من أن يتسلط عليه جبار، فلذلك سمي البيت العتيق، {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، وما قال: فليعبدوا ربهم، أو فليعبدوا إلههم، أو فليعبدوا رب العالمين، وإنما قال: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ}، كأنه سبحانه ينبههم بأن شرفهم وعزهم وسؤددهم راجع إلى وجود هذا البيت، كما قال سبحانه: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:٩٧]، ولولا البيت الحرام فما قيمة مكة؟! فهي ليست بمكان سياحي، أو ذات طبيعة خلابة، فليس فيها إلا الجبال والقيظ والفجاج الضيقة، والشعاب المتعرجة إلى يومنا هذا، ومع ذلك القلوب إليها مشتاقة، كما قال الله على لسان الخليل إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:٣٧]، {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة:١٢٥]، قال أهل التفسير: لا تشبع منه نفس المؤمن أبداً، يخرج منه وهو مشتاق إليه، نسأل الله أن يكرمنا بزيارته، والطواف به.

قالوا: ومن حكمة الله عز وجل في هذا البلد الحرام أنه لا يدخله الطاعون، فإن من أطيب بلاد الله هواء، وأصحها جواً، يدخلها الطاعون، فبلاد الشام مثلاً الطاعون يدخلها والأوبئة تدخلها، وفي أيام الحج تكثر القاذورات في البلد الحرام، ولو كان في بلد آخر لنزل وباء وفتك بالناس كلهم أجمعين، ومع ذلك فالحجاج يزيدون على المليونين أحياناً، وهم في فجاج ضيقة، يأكلون ويشربون وكل شيء يحصل ومع ذلك يسلمهم الله عز وجل.