[تفسير آية القصاص]
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ} [البقرة:١٧٨] (كتب) بمعنى فرض، ومنه قول الله عز وجل: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ))، والمراد الكتابة في اللوح المحفوظ أو الكتابة الشرعية ولا تعارض، فالكل سابق في علم الله، وأصل الكتب النقش في حجر أو ورق أو رق أو غير ذلك.
((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)) القصاص هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل، ((فِي الْقَتْلَى)) أي: بسبب القتلى، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دخلت امرأة النار في هرة) أي: بسبب هرة، والقتلى جمع قتيل كالجرحى جمع جريح.
((الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى))، أجمع أهل العلم على أن الذكر يقتل بالأنثى، فلو أن رجلاً قتل امرأة فإنه يقتل بها لو طلب أولياء الدم القصاص، فليست الآية على ظاهرها، ولا يفهم من الآية أبداً أن الذكر لا يقتل بالأنثى، وقد قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة بقول الله عز وجل: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:٤٥]، لكن لا حاجة إلى القول بالنسخ إذا عرفنا سبب النزول، وأن الآية نزلت لأن ذلك الحي من العرب قالوا: إذا قتلت منا امرأة سنقتل بها رجلاً ولعل هذه المرأة قد قتلتها امرأة مثلها، فلم يقتل الرجل الذي لم يقتل وتترك المرأة التي قتلت؟! فمعنى الآية أنه لا يقتل إلا القاتل، ولذلك نقل الإمام ابن عطية في المحرر الوجيز وابن جزي في التسهيل وغيرهما أجماع أهل العلم على أن الرجل يقتل بالمرأة.
قال الله عز وجل: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ))، (فمن عفي له) أي: ترك ولي الدم الذي هو ولي القتيل، قال الله عز وجل: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء:٣٣] أي: لا يمثل بالقتيل، ولا يقتل غير القاتل، فإن عفا عنه ولي الدم وترك القصاص، بأن قال له: عفوت عنك ولكن أريد الدية، فهذا يسمى عفو على دية، أو قال له: عفوت عن القصاص وأريد نصف الدية فيكون قد عفا على بعض الدية.
قال الله عز وجل: {فمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} [البقرة:١٧٨]، استدل بهذه الآية على أن القاتل لا يكفر، وإن كان قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور)، أو قال: (وشهادة الزور).
وقال: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة لقي الله مكتوباً على وجهه: آيس من رحمة الله) رواه الإمام ابن ماجة، قال الهيثمي: وفي سنده ضعف.
فالقاتل ارتكب كبيرة ولكنه لم يخرج عن اسم الإيمان، ولذلك فإن الله عز وجل جعل ولي الدم أخاً للقاتل.
قال أهل التفسير: في الآية ترقيق للقلوب وإشعار لولي القتيل بأن يتذكر أن القاتل يجمعه معه الإسلام والإيمان، فهو قد أخطأ واعتدى وأسرف على نفسه لكن اعف، {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:٤٠]، {فمن عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:١٧٨]، فيجب على ولي القتيل أن يطالب بالمعروف من غير رهق ولا تضييق ويجب على القاتل أداء إليه بإحسان من غير مماطلة ولا تسويف.
قال الله عز وجل ((فمن عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)) يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهذا فيه قضاء على مفهوم الجاهلية، فإن الجاهلية كانت تستبشع العفو، ويرون أنهم بذلك قد باعوا دم قتيلهم، ولذلك قال قائلهم: فلا تأخذوا عقلاًِ من القوم إنني أرى العار يبقى والمعاقل تذهب والعقل: هو الدية: يقول لهم: إن الدية ستنتهي وسيبقى علينا العار فلا ترضوا إلا بالقصاص.
قال الله عز وجل: ((ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ)) أي: ذلك تسهيل من ربكم جل جلالة، وتيسير ورحمة بكم، خلافاً لما كان عند اليهود، فإن اليهود في شريعتهم أنه إذا قتل القاتل فلا بد من القصاص، وليس هناك مجال لدية ولا عفو، والنصارى ليس في شريعتهم قصاص، وإنما لا بد من العفو، فالله عز وجل خيرنا أمة محمد صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إن شاء قتل وإن شاء ودع) أي: إذا أراد أن يقتل القاتل فمن حقه، وإذا أراد أن يقبل الدية فمن حقه، وأفضل من هذا كله أن يعفو.
قال الله عز وجل: ((ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ)) أي: فمن اعتدى بعد أخذ الدية فله عذاب أليم.
فلو أن إنساناً قتل إنساناً فرضي ولي القتيل بالدية وبعد أن أخذها قتله، قال بعض العلماء يقتل القاتل ألبتة، وليس هناك مجال للتخيير، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أمره إلى ولي الأمر، فإن رأى أن يقتله تعزيراً من أجل أن يردع الناس عن مثل هذا فله ذلك، ((فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)).