[تفسير قوله تعالى:(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة)]
قال الله تعالى:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:٤].
لقد تفرق أهل الكتاب واختلفوا، وتفرق المشركون أيضاً، فمرة يقولون: ساحر، ومرة: كاهن، ومرة: مجنون، ومرة: شاعر، ومرة: يكتب أساطير الأولين، ومرة: إنما يعلمه بشر، يقول الله عز وجل:{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:١٠] أي: الكذابون، وقال:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ}[الذاريات:٨] أي: كل يوم عندكم كلام يختلف عن الذي قبله، وقد خصَّ الله أهل الكتاب بالذكر في قوله:{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}[البينة:٤]، قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره: قصد الآية التشنيع على كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة، أي: لأن عندهم كتباً، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه، وصفته، ومولده، ومهاجره، وقد قال الله عز وجل:{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}[البقرة:١٤٦] وقال عيسى عليه السلام: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}[الصف:٦]، فكان الواجب عليهم ألا يختلفوا، لكنهم عياذاً بالله ما تفرقوا جهلاً، وإنما عمداً.
فاليهود قاتلهم الله كانوا يطرحون على الرسول الله صلى الله عليه وسلم الأسئلة، فقد سألوه عن فتية خرجوا في الدهر الأول ما خبرهم؟ فيجيب بأنهم أهل الكهف، ويقرأ عليهم الآيات، وسألوه عن رجل ملك المشارق والمغارب، فيقرأ عليهم خبر ذي القرنين، وسألوه هل ينزع الولد لأبيه أو لأمه؟ فيخبرهم صلى الله عليه وسلم، وسألوه صلوات الله وسلامه عليه:(ما أول طعام أهل الجنة؟ فقال لهم: زيادة كبد حوت)، وسألوه ما أول أشراط الساعة؟ فقال:(نار تخرج من قعر عدن تحشر الناس إلى المحشر)، وفي حديث آخر:(يأتيه وفد من اليهود: فقالوا: يا محمد! نسألك فإن أجبتنا فأنت نبي، قال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى، إن أنا أجبتكم أتؤمنون؟ قالوا: بلى، قال: سلوا، قالوا: نسألك أولاً ما هو الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل -يعقوب عليه السلام- أكل لحم إبل فمرض، فنذر إن عافاه الله أن يحرم على نفسه لحم الإبل؟ قالوا: بلى، قال: اللهم اشهد) هذه واحدة، ثم طرحوا عليه سؤالاً ثانياً وثالثاً ورابعاً، وفي النهاية قالوا له:(يا محمد! من وليك من الملائكة؟ أي: من يأتيك بالوحي؟ قال لهم: جبريل، قالوا: جبريل ذاك عدونا، لو كان غيره لاتبعناك، قال: فما يمنعكم من اتباعه؟ قالوا: إنه يأتي بالعذاب، لو كان ميكائيل لاتبعناك) يعني: جعلوا الدين تبعاً للأهواء.
وبعضهم كان يقول: أنا رأس في قومي، كيف أرضى أن أكون تبعاً لمحمد؟! فباع آخرته بدنيا حقيرة.
وهذا كعب بن أسد لعنه الله لما حوصر مع بني قريظة قال لقومه: يا قوم! أعرض عليكم خصالاً ثلاثاً، قالوا: هات الأولى، قال: الأولى: أن ننزل من حصوننا فنتابع هذا الرجل؛ فإنكم تعلمون أنه النبي المذكور في التوراة، فقالوا: لا نفارق ديننا، هات الثانية، قال: الثانية: اليوم يوم السبت، وقد أمننا محمد وأصحابه، ننزل فنناجزهم، نغدر بهم، قالوا: قد علمت من اعتدى في السبت ما فعل الله به، قال لهم:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:٦٥]، هات الثالثة، قال: الثالثة: أن نقتل نساءنا وأطفالنا، ونناجز محمداً فإن ظهر علينا لم يكن وراءنا ما نخاف عليه، وإن ظهرنا عليه اتخذنا الذرية والأزواج، قالوا: فما خير العيش بعد قتل الذرية والأزواج، قال: قاتلكم الله ما بات رجل على رأي منذ ولدته أمه.
هذا الخبيث الذي كان يقول: إنكم تعلمون أنه النبي المذكور في التوراة، لما حكم عليه بالقتل، وأخذ ليقتل لينفذ فيه حكم الإعدام مقيداً، نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد! والله ما ندمت على عداوتك لحظة.