[توجيه طلب الإيمان من المؤمنين في قوله (يا أيها الذين آمنوا آمنوا)]
هناك إشكال عند كثير من أهل التفسير في قول الله عز وجل:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)) وهو كيف أنهم مؤمنون ويطالبون بالإيمان؟ ذكروا في ذلك وجوهاً: الوجه الأول: أن المخاطبين بهذه الآية هم أهل الكتاب؛ فقوله تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: آمنوا بموسى وعيسى، ((آمِنُوا)) آمنوا بالله إيماناً شرعياً صحيحاً، وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ((وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ)) محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب هو القرآن ((وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ)) أي: جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه ورسله، إذاً: المخاطب بهذه الآية هم أهل الكتاب.
الوجه الثاني: أن المخاطب بهذه الآية هم المنافقون، فقوله تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)) أي: آمنوا بألسنتهم، ((آمِنُوا)) بقلوبكم، ((آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ)) إيماناً يتواطأ عليه القلب مع اللسان، ولا يكن إيمانكم لسانياً لا يغني عنكم من الله شيئاً.
الوجه الثالث: أن المخاطبين بهذه الآية هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بالأمر بالإيمان: الدوام والثبات عليه حتى موافاة رب العالمين جل جلاله به، كما قال الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}[الأحزاب:١] وهو عليه الصلاة والسلام سيد المتقين، لكن المعنى: اثبت على تقوى الله، وكقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:٦٧] وهو عليه الصلاة والسلام من يومه الأول يبلغ رسالة ربه، لكن المراد الدوام والاستمرار.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهو الجاري على ألسنة أهل العلم، وبناء عليه جعلوا الآية شاهداً لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام، كما أن الله عز وجل يأمرنا في القرآن كثيراً بقوله:{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة:١١٠]، ومن المعلوم أن المؤمن لابد له من صلاة وزكاة، لكن المراد هو المداومة والاستمرار.
الوجه الرابع في قوله تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ)): أنه خطاب للمؤمنين، أي أن المطلوب منكم إيماناً لا تشوبه كراهية بعض كتب الله، تحذيراً من ذلك؛ لئلا يدفعهم بغض اليهود الذين كانوا يساكنونهم المدينة وما بينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرح به اليهود من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم، وإنكار نزول القرآن، فاليهود -قاتلهم الله- كانوا ينكرون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وينكرون نزول القرآن، فالله عز وجل حذر المؤمنين من أن يسلكوا مسلكهم، وأن يقابلوا ظلمهم بظلم المثل، وقد بدر من بعض المسلمين شيء من ذلك لما قال واحد من اليهود وهو في السوق: لا والذي اصطفى موسى على البشر.
يحلف بالله الذي اصطفى موسى على البشر، وهذا كلام فيه نوع عنصرية وعنجهية، فرفع المسلم يده فلطمه لطمة منكرة وقال له: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانينا، أي: أنت تقول هذا الكلام والرسول صلى الله عليه وسلم موجود عندنا في المدينة، أما تعرف أنه عليه الصلاة والسلام قد اصطفاه الله على العالمين؟ فلما جاء اليهودي يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام:(لا تخيروا بين الأنبياء)، وهو عليه الصلاة السلام يعلم أنه المخير، وأنه أول شافع وأول مشفع، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يأخذ بحلقة باب الجنة، وصاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وأكثر الأنبياء تابعاً، وإمام الأنبياء في ليلة الإسراء وخطيبهم صلوات ربي وسلامه عليه، وكلهم صلوا من ورائه دلالة على أفضليته، لكنه عليه الصلاة والسلام نهى عن التفضيل بين الأنبياء إذا كان ذلك على سبيل العصبية والفخر، وهضم بعض الأنبياء، أو التوسل بذلك إلى الحط من أقدارهم صلوات الله وسلامه عليهم.
فالخطاب في هذه الآية إما أن يكون لأهل الكتاب، وإما أن يكون للمنافقين، وإما أن يكون للمؤمنين على إرادة الدوام والاستمرار كما قال سبحانه:{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:١٠٢]، وإما أن يكون خطاباً للمؤمنين تحذيراً لهم من أن يسلكوا مسلك اليهود الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض.