[قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا)]
النداء الثامن عشر في آخر آية من سورة آل عمران: قول ربنا تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:٢٠٠]، وقد نزلت بضع وخمسون آية في شأن غزوة أحد وما كان فيها من مصاب المسلمين في سبعين من خيارهم، وما كان من مصاب المسلمين في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جرح وشج رأسه صلوات ربي وسلامه عليه، حتى بلغ من شدة الضرب عليه أن البيضة قد تهشمت على رأسه، فختم ربنا السورة بهذه الآية، فكأنه يقول: يا مؤمنون! اصبروا على تكاليف الدين، واصبروا على تحليل الحلال وعلى تحريم الحرام، واصبروا على فعل المأمور واجتناب المحظور، واصبروا على قضاء الله وقدره، واصبروا على الصلوات الخمس وعلى غير ذلك من التكاليف.
((وَصَابِرُوا))، المصابرة حقيقتها: أن يصبر الإنسان أمام الصابر، فالمصابرة مفاعلة، فأمامك عدو صابر، يصيبه القرح والجرح ويؤذى ويقتل ومع ذلك هو قادر عليك، صابر في مواجهتك وفي قتالك، فواجب عليك أن تصبر أمام هذا الصابر، وهذا معنى قول الله عز وجل: ((وَصَابِرُوا)).
وقال زيد بن أسلم: معناه مصابرة الأعداء، وقال الحسن البصري رحمه الله: أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم، وهو الإسلام فلا يدعوه لسراء ولا ضراء ولا لشدة ولا رخاء حتى يموتوا مسلمين، وأمروا أن يصابروا الأعداء الذين يكيدون لدينهم.
فالأمر الأول بالصبر، والأمر الثاني بالمصابرة، والأمر الثالث قال الله عز وجل: ((وَرَابِطُوا))، أي: أقيموا في الثغور مرابطين خيلكم، مستعدين للجهاد في سبيل الله، وهذا معنى المرابطة أو الرباط.
وقيل: بل المراد الصبر على الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط).
ولا تنافي بين التفسيرين، فتفسير المرابطة بأنها المرابطة على الصلوات الخمس، نوع من أنواع الرباط، وبأنها ربط الخيل استعداداً للجهاد في سبيل الله، هذا كذلك نوع من أنواع الرباط.
قال الله عز وجل: ((اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ)) أي: اتقوا الله بفعل المأمور، واجتناب المحظور، والصبر على المقدور، فاتقوا الله بأن تعملوا بطاعة الله على نور من الله رجاء ثواب الله، وأن تصبروا عن معصية الله على نور من الله خوفاً من عقاب الله، واتقوا الله بأن تخافوا من الله عز وجل، وأن تعملوا بكتابه، وأن تقنعوا بما رزقكم، وأن تستعدوا للقائه جل جلاله.
وقوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) لعل بمعنى اللام أي: لتفلحوا، بمعنى: اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لتفلحوا، أو المعنى على رجاء منكم أن يحصل لكم الفلاح، والفلاح البقاء مع المحبوب بعد الخلاص عن المكروه.
قال الإمام النسفي رحمه الله في محاسن التأويل: قيل: معنى الآية: اصبروا في محبتي، وصابروا على نعمتي، ورابطوا أنفسكم في خدمتي؛ لعلكم تظفرون بقربي.
ذكر هذا الوجه من أوجه التفسير.
وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل الرباط والمرابطين، فروى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).
وفي صحيح مسلم عن سلمان: (رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله، الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان).
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: (خطب عثمان بن عفان رضي الله عنه في الناس يوماً فقال: أيها الناس! إني سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم وبصحابتكم، فليختر مختار لنفسه أو ليدع).
يعني: أن عثمان يقول لهم هذا الحديث أنا كتمته؛ لأني أعلم أني لو حدثتكم به فكلكم ستعملون به وتتركونني وأنا حريص على صحبتكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة قيامها وصيامها).
وقال عليه الصلاة والسلام: (حرمت النار على عين دمعت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله).
وفي صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعثٌ رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة أو كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع).
وهذه الآية قد دلت على معانٍ سبقت في آيات مضت، فقول الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا)) قد مضى معنا نظيره في قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} [البقرة:٤٥]، وقول الله عز وجل: ((وَصَابِرُوا)) دلت عليه آيات من القرآن كقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:٦٩]، وقول الله عز وجل: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:٤٥]، وقال سبحانه: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:٦٥]، وكذلك الرباط، فكل الآيات التي أمرت بالجهاد فهي قد أمرت ضمناً بالرباط؛ لأن الرباط نوع من أنواع الجهاد.
وأما قول الله عز وجل: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ)) فقد مر معنا في آية الصيام والتي هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٨٣]، ومر معنا في آية القصاص: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة:١٧٨]، إلى أن قال سبحانه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:١٧٩]، فكل التشريعات التي جاءت بها شريعة الإسلام إنما جاءت لتحصيل هذا الغرض العظيم، وهو تقوى الله عز وجل، وقد مر معنا قول ربنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:١٠٢]، وذلك بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر، وعرفنا أن تقوى الله عز وجل سببٌ لكل خير في الدنيا والآخرة، نسأل الله أن يجعلنا من المتقين.