قال الله تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:١].
(ويل) إما دعاء وإما خبر، وعندنا في القرآن ثلاث سور بدأت بالدعاء: سورة المطففين أولها: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}[المطففين:١]، وهذه السورة:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ}[الهمزة:١]، وسورة المسد {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}[المسد:١]، هذه السور الثلاث مبدوءة بالدعاء، على قول من يقول من أهل التفسير أن المقصود بـ (ويل) الدعاء، لكن بعضهم قال:(ويل) هو خبر أي: عذاب وهلاك، أو كما قال بعض المفسرين: هو وادٍ في جهنم بعيد قعره شديد حره.
قوله:((لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ))، همزة لمزة وزنها فعلة، وهذا الوزن يطلق على الإنسان الذي يكثر من الفعل، فمن يكثر الضحك يقال له: ضُحَكة، ومن يكثر من اللعن يقال له: لُعَنة.
والمفسرون رحمهم الله أقوالهم في معنى همزة لمزة تدور على أن الهمزة اللمزة هو: العياب الغياب الطعان، أي: الذي يعيب الناس ويغتابهم ويطعن فيهم.
ما الفرق بينهما؟ قال بعضهم: الهمز يكون باللسان، واللمز يكون بالعين وبالرأس وباليد ونحو ذلك، وبعضهم يعكس ويقول: الهمزة ما كان باليد والرأس والعين، واللمزة ما كان باللسان، واستدل بقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ) [الحجرات:١١]، وبعضهم يقول: الأمر لا يتعلق بالآلة، وإنما الهمزة هو من يطعنك في وجهك، واللمزة هو من يطعنك في غيابك، وعلى كلٍّ، فكلاهما مذموم منبوذ مقبوح، توعد الله صاحبه بالويل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن شرار الناس الهمازون اللمازون الباغون للبرآء العنت، المفسدون بين الأحبة).
وجاء في سنن الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر فقال: يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله)، وجاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(لا يدخل الجنة قتات)، والقتات: هو النمام، وهذا المعنى أخذه الإمام الشافعي رحمه الله في أبيات ما أفصحها وما أحسنها حين قال: إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى ودينك موفور وعرضك صين لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك سوءات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك مساوئاً فصنها وقل يا عين للناس أعين وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن فهذه الآية نزلت في المشركين الذين كانوا يلمزون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رأسهم عدو الله أبو لهب بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث عن جميل بن عباد قال:(إني لفي سوق عكاظ وأنا غلام صغير مع أبي، إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقف بين الناس وهم حوله يقول: أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله، وخلفه رجل أحول وضيع ذو غديرتين يقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه مجنون، لا تصدقوه فإنه ساحر، قلنا: من هذا؟ قالوا: هذا محمد بن عبد الله، يزعم أن الله أرسله، والرجل الذي خلفه عمه أبو لهب، فكان الناس يقولون: عمه أعرف به) أي: شهد عليه عمه بأنه مجنون، وأنه كذاب، وأنه ساحر، فعمه أدرى به، فهذا ما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم، وأحياناً كان الأمر يتعدى إلى استعمال اليد، كما فعل عقبة بن أبي معيط لما كان صلى الله عليه وسلم ساجداً عند الكعبة، فجاء الخبيث بسلى جزور فطرحها على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فضحك القوم حتى مال بعضهم على بعض، ولم يرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه كراهة أن يقذر البيت، -أي: تحمل الأذى صلى الله عليه وسلم في رأسه كراهة أن ينزل على أرض المسجد الحرام- حتى جاءت ابنته فاطمة رضي الله عنها وهي تبكي، فأزالت الأذى عن رأس أبيها، فنظر إليهم وقال:(اللهم عليك بالملأ من قريش، اللهم عليك بـ عتبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ شيبة بن ربيعة، اللهم عليك بـ أمية بن خلف، اللهم عليك بـ أبي جهل بن هشام، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط)، فقتل الخمسة يوم بدر كفاراً إلى جهنم وبئس المصير.
ومما يبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قوي النفس عالي الهمة واثقاً من نصر ربه:(أن الكفار جلسوا يوماً عند الكعبة، وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا أصبر منا على هذا الرجل، عاب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وفرق جماعتنا، وهم يتكلمون، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف حول الكعبة، فلما مر بهم غمزوه، ثم طاف صلى الله عليه وسلم فلما مر بهم غمزوه، فلما كانت الثالثة التفت إليهم صلى الله عليه وسلم كالأسد الهصور، وقال: تعلمون معشر قريش والله لقد جئتكم بالذبح، وأشار إلى عنقه، فعاد أكثرهم جهالة يقول له: انصرف أبا القاسم! والله! ما كنت جهولاً) فالله تعالى ألقى الرعب في قلوبهم من هذه الكلمة التي نطق بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالله عز وجل توعد هؤلاء بالويل وأنزل فيهم هذه الآية:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}[الهمزة:١].