للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الكلام لغير إصلاحها]

الأمر الثامن: الكلام إلا القليل لإصلاحها، فمن تكلم في الصلاة لغير مصلحة الصلاة فقد بطلت صلاته، والدليل على ذلك حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: (كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جانبه، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨].

فأُمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام).

وقوله هنا: أُمرنا ونهينا، معناه: أن الآمر والناهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في حكم المرفوع.

وكذلك جاء في حديث معاوية بن الحكم السلمي: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من الكلام، إنما هو التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن) فـ معاوية بن الحكم رضي الله عنه جاء، وما كان يعرف بأن الصلاة قد منع فيها الكلام، فكبر، ثم سأل من بجواره: كم صليتم؟ قال: فما ردوا علي شيئاً، ثم عطس أحد الناس، فقلت له: يرحمك الله، فرمقني الناس بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه! ما لكم تنظرون إلي؟ قال: فأخذوا يضربون أفخاذهم، فسكت، قال: فلما سلم دعاني رسول صلى الله عليه وسلم فوالله! ما رأيت معلماً أحسن منه، فداه أبي وأمي، والله! ما نهرني، ولا كهرني، ولا ضربني، ولكن قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح، والتكبير، وقراءة القرآن.

وأما الكلام القليل لإصلاحها فلا يبطلها، مثاله: إذا قام الإمام إلى خامسة فقلت له: سبحان الله! سبحان الله! فإذا لم ينتبه فقلت له: أتممت أربعاً، أو الصلاة تامة فهو كلام قليل يسير؛ يقصد به الإصلاح.

والدليل على ذلك: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالصحابة إحدى صلاتي العشي -الظهر أو العصر- فسلم بعد ركعتين، ثم قام عليه الصلاة والسلام واستند على المنبر، وشبك بين أصابعه على هيئة المغضب، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهابوا أن يكلموه، فقال ذو اليدين -وسمي ذي اليدين إما لأن يديه طويلتان، أو لأنهما قصيرتان-: يا رسول الله! قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: ما قصرت ولا نسيت، قال: بل نسيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم يا رسول الله.

فاستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة، وصلى ركعتين، ثم سجد للسهو).

فهنا حصل كلام، لكن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى، ولم يستأنف الصلاة، فوجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى على ما مضى، فدل ذلك على أن الكلام القليل لإصلاحها لا يبطلها.

أما إذا حصل الكلام في الصلاة -ولو كان بآيات، والمقصود الكلام- فقد بطلت الصلاة مثال ذلك: طرق الباب طارق، وقلت: (أدخلوها بسلام آمنين) فالصلاة باطلة.

وهكذا لو أن أحداً من الناس سألك وأنت في الصلاة: ما مالك؟ فقلت: (والخيل والبغال والحمير) فصلاتك باطلة، أو لو أن إنساناً في الصلاة أتى بأمر عجيب، وذكرت آية أو بعض آية وقلت: {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:٦٨]، أو لو أن إنساناً تكلم بمصيبة، أو ذكر أن فلاناً قد مات، فقلت: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:١٥٦] فصلاتك باطلة، ولو سألك شخص: من أين جئت؟ وأنت في الصلاة، وقلت: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:٤٥] فصلاتك باطلة، أو لو أن إنساناً في الصلاة قال لك: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:٦٠]، فقلت: (لا إله إلا الله) بطلت أيضاً؛ لأنك قصدت الكلام، ولو جاء إنسان -مثلاً- يطلب كتاباً فقلت وأنت في الصلاة: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} [مريم:١٢] فصلاتك باطلة، ولو أنك جائع، وأنت تصلي الظهر أو العصر فدخلت الزوجة، فقلت: {آتِنَا غَدَاءَنَا} [الكهف:٦٢] فأيضاً صلاتك باطلة.

فالمقصود بأنك إذا نويت الكلام ولو كان بالقرآن فقد بطلت الصلاة، لكن إذا كان الكلام قليلاً وقصد به إصلاحها فلا تبطل الصلاة.

فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته أن يعيد، ولم يأمر معاوية بن الحكم أن يعيد، مع أن الأول ارتكب مبطلاً وهو ترك الطمأنينة، والثاني ارتكب مبطلاً وهو الكلام، فلمَ أمر أحدهما بالإعادة ولم يأمر الثاني؟ ف

الجواب

أن معاوية بن الحكم معذور بحداثة التشريع؛ لأن نزول قول الله عز وجل: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨] رافع للأصل الذي هو إباحة الكلام، فلما ارتفع هذا الأصل ولم يعلم معاوية برفعه عذره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما الآخر المسيء صلاته الأصل وجوب الطمأنينة، ولذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة التي صلاها، ولم يأمره بإعادة ما مضى، فكأنه صلى الله عليه وسلم عذره لجهله فيما مضى، ولم يعذره للجهل في تلك الصلاة الحاضرة.