كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد أحسن الهدي، وأكمله، وأعلاه، وأفضله، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (زاد المعاد): كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فيقول مثلاً إذا أراد غزوة حنين: كيف طريق نجد ومياهها؟ ومن بها من العدو؟ ونحو ذلك، فهو يريد حنين ناحية الطائف ويسأل عن نجد؛ لأن في داخل الصفوف منافقين، وفي داخل الصفوف عيون للأعداء، وجواسيس ينقلون أخبار المسلمين، ويدلون على عوراتهم، فلذلك كان صلوات ربي وسلامه عليه يأخذ بالأسباب، ولا يبين الوجهة التي يقصدها، وإنما يوري بغيرها، وكان يقول:(الحرب خدعة) وخدعة: اسم مَرَّة، أي: خدعة واحدة تحسم بها الحرب، أو أن خدعة مصدر بمعنى أنها تعتمد على الحيلة والخداع، وكان يبعث العيون يأتونه بخبر عدوه، ويبعث الطلائع، ويبيت الحرس، وما كان يقول: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منصور بأمر الله فناموا أيها المسلمون! واطمئنوا فأنتم محروسون بعين الله، وإنما كان يقيم الحرس يحرسونه هو وأصحابه رضوان الله عليهم، وكان إذا لقي عدوه وقف ودعا واستنصر الله، وأكثر هو وأصحابه من ذكر الله، وخفضوا أصواتهم؛ لأن الله تعالى قال لهم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الأنفال:٤٥] فذكر الله عند التقاء الصفين مطلوب، وكان يرتب الجيش والمقاتلة، ويجعل في كل جنبة كفؤاً لها، وكان يبارَز بين يديه بأمره، وكان يلبس للحرب عدته، ويلبس عليه الصلاة والسلام اللأمة -وهي الدرع الواقي- من الحديد من أجل أن يتقي به الضربات، وكان يضع على رأسه البيضة من أجل أن يتقي الضربات، وفي يوم أحد هشمت هذه البيضة على رأسه صلوات الله وسلامه عليه من كثرة ما وجه له من الضربات، وكانت له الألوية والرايات، فهذه راية بني فلان، وهذه راية بني فلان، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً، أي: أنه إذا فتح بلداً فإنه عليه الصلاة والسلام يقيم بها ثلاثة أيام ثم يقفل، وأحياناً كان يقيم أكثر من ذلك كما فعل عليه الصلاة والسلام في فتح مكة، حيث أقام بها تسعة عشر يوماً، وكان إذا أراد أن يغير انتظر، فإذا سمع في الحي مؤذناً لم يغر وإلا أغار، وكان ربما يبيت عدوه كما فعل ببني المصطلق، وربما فاجأهم نهاراً كما فعل باليهود في خيبر، جاءهم بالنهار وهم يحملون مساحيهم ومكاتلهم، فمجرد ما رأوا الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا:(محمد والخميس)، والخميس هو الجيش، فقال عليه الصلاة والسلام:(إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، الله أكبر خربت خيبر)، ففتحها الله عليه، وكان يحب الخروج يوم الخميس بكرة النهار، وكان العسكر إذا نزلوا انضم بعضه إلى بعض حتى لو بسط عليهم كساء لعمهم، وكان يرتب الصفوف ويعبئهم عند القتال بيده ويقول: تقدم يا فلان! تأخر يا فلان! وكان يستحب للرجل منهم أن يقاتل تحت راية قومه، وكان إذا لقي العدو قال:(اللهم! منزل الكتاب، مجري السحاب، هازم الأحزاب؛ اهزمهم وانصرنا عليهم)، ولربما قال:(سيهزم الجمع ويولون الدبر، بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).
وكان يقول:(اللهم! أنزل نصرك)، وكان يقول:(اللهم! أنت عضدي، وأنت نصيري، وبك أقاتل)، وكان إذا اشتدت الحرب، وحمي الوطيس، واحمرت الحدق يحتمي الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يكون أحد أقرب إلى العدو منه عليه الصلاة والسلام، يقول علي: وإن الشجاع منا للذي يحاذيه يقف في صفه وكان يقول: (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)، صلوات الله وسلامه عليه.
وكان يجعل للصحابة شعاراً، وهو ما يسمى الآن بكلمة السر، من أجل أن يعرف الناس بعضهم بعضاً إذا تكلموا، فكان شعارهم مرة (أمت أمت)، ومرة (يا منصور!) ومرة (حاميم لا ينصرون)، وكان يلبس الدرع والخوذة ويتقلد السيف، ويحمل الرمح، ويتترس بالترس، وكان يحب الخيلاء في الحرب عليه الصلاة والسلام، فالخيلاء ممنوعة ومحرمة، لكنها في الحرب مطلوبة، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أبو داود وابن حبان:(إن من الخيلاء ما يحبه الله، ومنها ما يبغضه الله، فأما الخيلاء التي يحبها الله فاختيال الرجل بنفسه عند اللقاء -أي عند الحرب- واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغضها الله عز وجل فاختياله في البغي والفخر).
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن قتل النساء والولدان، وكان ينظر في مقاتلة العدو فمن رآه أنبت قتله، ومن رآه لم ينبت استحياه، وكان إذا بعث سرية يوصيهم بتقوى الله ويقول لهم:(سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا)، فالتمثيل بالعدو ولو كان كافراً حرام لا يجوز، وذلك كأن نفقأ عينه، أو تقطع أذنه، أو تجدع أنفه، فهذا كله حرام، وليس من التمثيل ذبحه؛ لئلا تخلط الأمور، فالذبح يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة)، وما عندنا في الشريعة نص يحرم الذبح، لكن هم يريدون أن يحكمونا بمقاييسهم ومعاييرهم، ويريدون أن يجعلوا القتل بالشنق والخنق والقتل بالحقنة أو بالكرسي الكهربائي شيئاً حضارياً ومباحاً، وأما القتل ذبحاً فوحشية، وليس ذبح البشر وحدهم وحشية عندهم، بل حتى لو ذبحت خروفاً فأنت متوحش ولست متحضراً، فالخروف عندهم يصعق بالكهرباء، أو يضرب بمثقل أو بعيار ناري، والطيور تلقى في الماء الحار فتخرج ميتة مسلوخة، فهذه هي الحضارة عندهم، وأما ذبحها وتذكيتها على ما شرع الله فهذه وحشية لا تليق! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه:(سيروا باسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً)، وأيضاً نحن المسلمين منهيون عن تخريب العامر، وقطع الشجر المثمر، وقتل الشيخ الكبير، والطفل الصغير، والمرأة التي لا تقاتل، وأما المرأة إذا كانت تشترك في القتال فإنها تقتل.
ومن فوائد هذه الآية: وجوب أخذ الحذر من أعدائنا، وأن أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون.
ومن فوائدها: وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله، وهذا النفرة تكون حسب المصلحة، فإما جماعات وإما جميعاً، ((فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)).