[تفسير قوله تعالى: (فليد نادية)]
قال الله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:١٧ - ١٨] كان أبو جهل يخاف من الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً شديداً، وهذه من عجائب صنع الله، مثل ما صنع الله لموسى، قالوا: كان فرعون إذا رأى موسى أحدث، مع أنه كان يتكبر ويقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:٥٢].
ومما يدل على خوف أبي جهل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء في الحديث: (أن رجلاً من بني إراش باع إبلاً من أبي جهل فماطله أبو جهل ولم يدفع له قيمة إبله، فذهب عند الكعبة، فوجد جماعة من قريش فقال: يا قوم من ينصفني من أبي الحكم؟ فقالوا وهم يسخرون منه: ذاك الرجل من بني عبد المطلب يعنون الرسول صلى الله عليه وسلم، سيستخرج حقك من أبي الحكم، فذهب الرجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: يا أخا العرب أتنصفني من أبي الحكم؟ قال: وما ذاك، قال: بعته إبلاً فأبى أن يعطيني الثمن، ودلني القوم عليك، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: قم بنا إليه، فمشى صلى الله عليه وسلم وضرب على أبي جهل بابه، قال: من؟ قال: محمد، فخرج عدو الله ممتقع اللون، فقال له صلى الله عليه وسلم: أعط هذا الرجل حقه، قال: أفعل يا أبا القاسم، فرجع الرجل للملأ من قريش وقال لهم: جزاكم الله خيراً، قالوا: وما ذاك؟ قال: أعطاني الثمن.
فلما جاء أبو جهل قالوا: كيف ذلك يا أبا الحكم؟ قال: والله ما إن ضرب علي محمد بابي فخرجت إليه حتى رأيت فوق رأسه فحلاً لو تأخرت لطحنني بين أنيابه).
فهو عليه الصلاة والسلام لم يكن معه حرس ولا حشم، وإنما ألقى الله عليه المهابة والجلالة والفخامة صلوات الله وسلامه عليه.
وجاء في حديث آخر: (أن عدو الله أبا جهل جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: ألم أنهك؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم زجره ونهره وطرده، فقال له: يا محمد لا ترفع علي صوتك، فإن قريشاً تعلم أنه لا أحد أكثر نادياً مني -يعني: أنا أكثر حاشية وجماعة- فقال الله عز وجل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَه} [العلق:١٧]) أي: فليأت بناديه وجماعته وحاشيته.
قال تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:١٨]، قال ابن عاشور رحمه الله: وهذه من معجزات القرآن، ف أبو جهل سمع الآية وسمعها الملأ من قريش وما جرؤ واحد منهم على أن يقول: أنا قبلت التحدي، وإلا لتخطفتهم الملائكة واحداً واحداً.
قوله: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، الزبانية: جمع زبني أو زبنية أو زباني، والمقصود خزنة جهنم.
قال تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:١٩] أي: لا تلتفت إلى هذا الخبيث، كما قال في آية أخرى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:١٠].
وقال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان:٢٤].
أي: لا تطعه واسجد واقترب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا من الدعاء؛ فقمن أن يستجاب لكم).
وثبت في صحيح مسلم أيضاً: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في هذه السورة وسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق:١]) نسأل الله أن يجعلنا من الساجدين.