قال الله تعالى:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:٨].
النعيم مشتق من النعومة والليونة، وهو ضد اليبوسة والخشونة والشدة.
والنعيم هنا كلمة عامة، وتبقى على عمومها، فنحن سنسأل عن الأمن والصحة والرزق والفراغ، وسنسأل عن نعمة الأموال، ونعمة الأولاد، ونعمة الحواس، كما قال تعالى:{إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}[الإسراء:٣٦]، وسنسأل عن لذة المطاعم والمشارب، وعن شبع البطون، وعن الري بالماء البارد، وعما متعنا الله به من النعم المعنوية، كنعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ونعمة القرآن، ونعمة العلم؛ وذلك لعموم قوله تعالى:{لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:٨].
روى الترمذي أنه لما نزلت هذه الآية: قال الصحابة: (يا رسول الله! أي نعيم نسأل عنه؟ وإنما نأكل خبز الشعير في أنصاف بطوننا؟ فأوحى الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: أن قل لهم: ألستم تحتذون النعال؟! ألستم تشربون من الماء البارد؟!) فالصحابة لم يكونوا مثلنا في النعيم، بل كان عيشهم خشناً.
وجاء في الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة أن يقال له: ألم نصح لك جسدك؟! ألم نروك من الماء البارد؟!)، ونحن كذلك، سيسأل الله كل واحد منا: ألم أعلمك؟! ألم أخولك وأجعلك تسود؟! ألم أرزقك الأموال والأولاد؟ يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال عند تفسير هذه الآية:{ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر:٨]، هل من حلال وفي حلال؟! أم من حرام وفي حرام؟! أم من طاعة وفي طاعة؟! أم من معصية وفي معصية؟ هل عرفتم حق الله عز وجل في النعيم الذي خولكم إياه؟! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه)، خاصة من تقدم به العمر، فقد أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ الستين، ثم قال:(وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسده فيما أبلاه) فهذا الجسد نعمة عظيمة بما فيه من الحواس التي أعطاك الله إياها، فهذه اليدان وما بطشتا، والرجلان وما مشتا عليه، والرأس وما وعى، والبطن وما حوى، والعينان البصيرتان، والأذنان السميعتان، والشفتان واللسان، كل هذه النعم ستسأل عنها: هل استعملتها في طاعة الله أم في معصية الله؟ وإذا أردنا أن نعرف قدر ما نحن فيه من النعيم، فلنرجع إلى الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه:(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً في نحر الظهيرة فوجد أبا بكر وعمر فقالا له: ما الذي أخرجك يا رسول الله؟! قال: وأنتما ما الذي أخرجكما؟ قالا: ما أخرجنا إلا الجوع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الذي أخرجكما، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! إن أبا الهيثم بن التيهان رجل من الأنصار، عنده بستان ما رأيت مثل تمره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلما إليه، فذهبوا إلى بستان أبي الهيثم فلقيتهم زوجة أبي الهيثم، فقالت: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فقال عليه الصلاة والسلام: ما لي لا أرى أبا الهيثم، فقالت: ذهب يستعذب لنا الماء -أي: ذهب ليحضر لنا ماءً حلواً-، فذهبت رضي الله عنها -وهي الكريمة الفاضلة التي اعتادت هذا الخلق من زوجها- فجاءت بعثكول تمر، وقربته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، وجاءتهم بماء بارد، فأكلوا وشربوا، فالنبي صلى الله عليه وسلم أمسك بالعثكول فقال: والله لتسألن يوم القيامة عن هذا، فأمسك عمر رضي الله عنه بالعثكول، وضرب به الأرض وقال: يا رسول الله! نسأل عن هذا؟ قال: إيه والذي نفسي بيده، ثم إن أبا الهيثم رضي الله عنه جاء ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فاستبشر وقال: مرحباً برسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، والله ما على وجه الأرض اليوم أحد أكرم أضيافاً مني -يحلف وصدق رضي الله عنه- فأخذ السكين ليذبح ما يكرمهم به، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: إياك والحلوب، فذهب رضي الله عنه وذبح وشوى، ثم جاء باللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه).
يقول عبد الله بن رواحة يمدح أبا الهيثم: فلم أر في الإسلام عزاً لأمة ولا مثل أضياف الإراشي معشراً نبي وصديق وفاروق أمة وخير بني حواء فرعاً وعنصراً فوافوا بميقات وقدر قضية وكان قضاءُ الله قدراً مقدراً إلى رجل نجدٍ يباري بجوده شموس الضحى جوداً ومجداً ومفخراً وفارس خلق الله في كل غارة إذا لبس القوم الحديد المسمرا ففدى وحيا ثم أدنى قراهم ولم يقرهم إلا سميناً متمراً إذاً: نعم الله عز وجل لو كانت تحصى لكان الأمر هيناً، لكن الأمر كما قال ربنا:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}[إبراهيم:٣٤].