[تفسير قوله تعالى: (وهذا البلد الأمين)]
قال الله تعالى: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:٣].
إن الله عز وجل تدرج في القسم من الفاضل إلى ما هو أفضل، فأقسم بالتين والزيتون وهو المكان الذي ولد فيه المسيح عيسى بن مريم، ثم بطور سينين، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى، ثم أقسم بالبلد الأمين موطن محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا تعارض -أيها الفضلاء- بين هذه الآية وبين قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:١] فقد تقدم معنا أن المفسرين قالوا فيها: (لا) هنا زائدة، كما في قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [الأنعام:١٥١] والمعنى: حرم عليكم أن تشركوا به شيئاً.
وفي قوله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت:٣٤] أي: ولا تستوي الحسنة والسيئة.
وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد:٢٩] أي: ليعلم أهل الكتاب.
وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:٦٥] المعنى: فوربك لا يؤمنون حتى يحكموك، فـ (لا) هنا زائدة على عادة العرب في كلامهم، أو يكون المعنى: لأقسم بهذا البلد، وتكون اللام للتوكيد، لكن أشبعت فتحتها حتى عادت ألفاً، كما في قول بعض العرب: وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا وقول الآخر: إذا العجوز غضبت فطلق ولا ترضّاها ولا تملق أي: لا ترضّها، لكن أشبع الفتحة فأثبت الألف.
فالله عز وجل أقسم بالتين والزيتون، وطور سينين، وأقسم بالبلد الأمين، والمقسم عليه، قوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:٤] أي: يقسم الله جل جلاله أنه خلق هذا الإنسان في أحسن صورة وأكمل هيئة.
قال الإمام القاضي أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله: ثبت بهذه الآية أن الإنسان أحسن شيء خلقه الله قط: جمال صورة، وبديع تركيب، له لسان ذلق، وعينان بصيرتان، وأذنان سميعتان، والرأس بما وعى، والبطن بما حوى، واليدان بما بطشتا، والرجلان بما مشتا، ثم جعله الله عز وجل سميعاً بصيراً مدبراً مريداً متكلماً حكيماً.
هذه الصفات كلها وضعها الله عز وجل في هذا الإنسان، خلقه الله عز وجل طويل القامة، لا يمشي مكباً على وجهه كسائر الحيوانات، وخلقه الله عز وجل يأكل بيديه ونوع له المطاعم والمشارب، ثم كساه بهذا اللباس الذي زاده جمالاً، قال عز وجل: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:٢٦] فهل رأيتم حماراً أو بقرة تلبس عباية أو بنطالاً أو قميصاً؟ لا، وإنما تمشي كما خلقها الله، لكن الإنسان خلقه الله عز وجل باللباس الذي يستر سوأته.
ثم خلق له الريش الذي يزيده جمالاً، عمامة أو شالاً، ويلبس عباءة، وينتعل في رجليه جوارب، وهذه كلها مكملات بعدما ستر العورة.