ثم قال الله:{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:٣] فبعد أن أقسم ربنا بالبلد أقسم بالوالد وهو آدم عليه السلام وأولاده، أو بالصالحين من ذريته.
{وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}[البلد:٣] ما جواب القسم؟ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:٤]، فالله عز وجل يحلف بالبلد، وبآدم وذريته على أن هذا الإنسان مخلوق في مكابدة وشدة وضيق وحرج، وهاهنا كلمات للإمام أبي عبد الله القرطبي أقرأها بنصها؛ لأن فيها حكمة بالغة، قال: قال علماؤنا: أول ما يكابد قطع سرته.
وهذا أول ما يعانيه الإنسان، ويمكن أن نقول: إن أول ما يعانيه هو الخروج من بطن أمه، هل يخرج بسهولة أم أنهم يجرونه جراً، ويسحبونه سحباً، وأحياناً رأسه؟! فهذا كله يحصل، لكن الشيخ قال: أول ما يكابد قطع سرته، ثم إذا قمط قماطاً وشد رباطه، يعني: عندما يلف الطفل لفاً محكماً، وربما يكون ذلك في شدة الحر، يكابد الضيق والتعب، ثم يكابد الارتضاع، فيعاني الطفل ما يعاني إلى أن يعتاد ثدي أمه، ولو فاته لضاع، ثم يكابد نبت أسنانه، والأسنان غير سهلة إذا طلعت، وتصحبها حمى وإسهالات، ثم يكابد نبت أسنانه، وتحرك لسانه، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام، ثم يكابد الختان والأوجاع والأحزان، ثم يكابد المعلم وصولته، فأول يوم نذهب فيه إلى المدارس نبكي، ثم يكابد المعلم وصولته، والمؤدب وسياسته، والأستاذ وهيبته، ثم يكابد شغل التزويج والتعجيل فيه، ثم يكابد شغل الأولاد والخدم والأجناد، ثم يكابد شغل الدور، وبناء القصور، ثم الكبر والهرم، وضعف الركبة والقدم، في مصائب يكثر تعدادها، ونوائب يكون إيرادها من صداع الرأس، ووجع الأضراس، ورمد العين، وغمّ اليدين، ووجع السن، وألم الأذن، ويكابد محناً في المال والنفس مثل الضرب والحبس، ولا يمضي عليه يوم إلا ويقاسي فيه شدة، ويكابد فيه مشقة، ثم الموت بعد ذلك كله، ثم مسألة الملك، وضغطة القبر وظلمته، ثم البعث والعرض على الله إلى أن يستقر به القرار إما في الجنة، وإما في النار، قال الله تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:٤] فلو كان الأمر إليك -أيها الإنسان- لما اخترت هذه الشدائد، فدل ذلك على أن لك خالقاً دبرك، وقضى عليك بتلك الأحوال فامتثل أمره {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ}[البلد:٤].
وهذه الآية -أيها الإخوان- فيها عزاء لأي شدة يقابلها الإنسان.