ثم بين ربنا جل جلاله أن أكثر الخلق خاطئون؛ إذ أن كثيراً من الناس إذا كان غنياً موسراً يظن أن هذا المال جاءه لأنه كريم على الله، وكثير من الناس يظن إذا كان فقيراً معدماً بأن هذه الفاقة قد أصابته لأنه هين على الله، كما حكى القرآن قول ذلك الكافر الذي قال لأخيه:{أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[الكهف:٣٤]، ثم قال له:{وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا}[الكهف:٣٦]، ويقول الله عز وجل في وصف هذا الإنسان:{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى}[فصلت:٥٠] هذا حال كثير من الناس.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وهؤلاء الذين يظنون أنهم قد حرموا الرزق لكونهم هينين على الله ليسوا بأحق عند الله ممن ظنوا أنهم نالوا المال لكرامتهم عند الله، وقد قال الله سبحانه:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ}[المؤمنون:٥٥ - ٥٦]، فالله عز وجل يعطي الدنيا لمن أحب ومن لا يحب، وقد كان الوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبو جهل، وأمثالهم من أغنى أغنياء البشر، ومع ذلك فهم في أسفل سافلين.
يقول العلامة ابن عاشور رحمه الله: وهذا الذي خفيت حكمته على كثير من أهل الشرك والزندقة حتى قال قائلهم: كم من عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تراه مرزوقاً كم من عاقل عاقل أعيت مذاهبه: يعني: ما استطاع أن يتحصل على المال، وجاهل جاهل تراه مرزوقاً.
هذا الذي ترك الأفهام حائرة وصير العالم النحرير زنديقاً فهو يعترض على الله عز وجل ويقول: كيف يكون العالم فقيراً، والجاهل غنياً ميسوراً؟ لكن الله عز وجل بين أن ذلك لا يرجع لمسألة كرامة أو إهانة، وإنما هو ابتلاء واختبار.