تفسير قوله تعالى: (يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم)
قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة:٦].
الصدور ضد الورود، فالورود هو القدوم، والصدور هو الرجوع، ولذلك عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لما كان في طريقه إلى مؤتة خرج المسلمون يودعونه، قالوا له: (يا ابن رواحة! ردك الله سالماً، فبكى رضي الله عنه وقيل له: ما يبكيك، أتبكي خوف القتل؟ قال: لا والله! لكنني تذكرت آية من كتاب الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:٧١] فلم أدر كيف الصدور بعد الورود؟!) فقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} أي: يرجعون بعدما حشروا.
قوله: {أَشْتَاتًا} [الزلزلة:٦] واحدها شت، بفتح الشين وتشديد التاء، أي: يصدرون أنواعاً وأصنافاً، كما قال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم:١٤]، وقال الله عز وجل: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم:٤٣]، فمنهم من هو صادر إلى الجنة، ومنهم من هو صادر إلى النار، ومنهم من هو صادر بوجه مستبشر فرح ضحك، ومنقلب إلى أهله وهو مسرور، ومنهم من هو صادر والعياذ بالله بوجه عليه غبرة, ترهقه قترة، بوجه قد اسود من الكفر بالله والفجور والعمل بمعصية الله.
قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} فمنهم من هو آخذ كتابه بيمينه، وتراه يصرخ في الناس قائلاً: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:١٩ - ٢٠]، ومنهم من هو آخذ كتابه بشماله من وراء ظهره، وتراه يصرخ ويقول: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:٢٥ - ٢٩].
قال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨].
يقول الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:٤٧]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:٤٠] يقول المفسرون رحمهم الله في مقدار الذرة: هي نملة حمراء صغيرة لا تكاد ترى، وقال بعض أهل اللغة: الذرة أن تضرب بيدك على الأرض، فما علق بها من الرمل الصغار تسمى واحدتها ذرة.
يقول سيد قطب رحمه الله: ونحن ندرك الآن أن الذرة شيء قد استقر في ضمير العلماء؛ لكنه لا يرى أصلاً، يعني: لا هو نملة ولا هو رملة، ولا هو شيء يرى بالعين، ولا بأكبر المجاهر التي تكبر الصغير جداً، وإنما الذرة أصغر من هذا كله.
فقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} هذه الآية تحفز المؤمن على أن يطلب كل عمل صالح ولو كان شيئاً يسيراً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاه) يعني: ظلف الشاة، وهو شيء لا يكاد ينتفع به، لكن لو أن جارة طلبت من جارتها فتعطيها ولو هذا الشيء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً أصابه العطش فنزل في ركية فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، ويلحس الثرى من شدة العطش، فلم يجد إناء فملأ موقه -أي: خفه- ثم سقى ذلك الكلب، فشكر الله له فأدخله الجنة).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (رأيت رجلاً يتقلب في الجنة، في شجرة قطعها من طريق الناس، كانت تؤذي المسلمين) فهو قطع شجرة من طريق الناس؛ فأدخله الله بها الجنة، وبالمقابل: (دخلت امرأة النار في هرة)، وجاء في الحديث: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً، تهوي به في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب).
هذه الآية فهمها الصحابة حق الفهم، فقد ذكر الإمام مالك رحمه الله: (أن أمنا عائشة رضي الله عنها كان بين يديها عنب تأكل منه، فجاء سائل فأمرت إنساناً عندها بأن يأخذ عنبة فيعطيها إياه، فالسائل على العادة أخذ يقلبها، ينظر إليها ويعجب، يعني: أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين، والعالمة الفاضلة تعطيني عنبة! فقالت له عائشة وهي الفقيهة العالمة: أتعجب منها؟ قال: بلى، قالت: كم فيها من مثاقيل الذر، والله عز وجل يقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة:٧]).
وكذلك جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (أنه كان يأكل تمراً، فجاء سائل فأعطاه تمرتين، فقبض يده وأبى أن يأخذ التمرتين، فقال له: يا هذا! إن الله يجزينا على مثاقيل الذر، ألا تقبلها أنت؟!).
وإننا نقرأ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه (كان عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر فجاءه غلام أسود يعمل راعياً، فقال له: من أنت؟ قال: أنا رسول الله! قال: إلام تدعو؟ قال له: أدعو إلى كذا وكذا، قال: مالي إن آمنت بك؟ قال: الجنة، قال: فمن يرد هذه الغنم لسيدي؟ -يعني: هو أمين، وسيده يهودي- قال له صلى الله عليه وسلم: اضرب على وجهها، فإن الله سيؤدي عنك، فشهد الرجل شهادة الحق، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: يا رسول الله! إني أسود الوجه، منتن الريح، دنس الثياب، ما لي عند الله؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أما إن الله سيبيض وجهك، وسيطيب ريحك، وسينظف ثوبك، ثم هذا الرجل اشترك في القتال فقتل قبل أن يركع لله ركعة، فجيء به، فلما وضع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنه صلى الله عليه وسلم وأشاح بوجهه، قال الصحابة: ما لك يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده! لقد رأيت زوجتيه من الحور العين تدخلان ما بين جبته وجلده) هذا الرجل ما ركع ولا سجد ولم يعمل خيراً قط، وإنما آمن بالله ورسوله واشترك في هذه المعركة واستشهد، والله عز وجل قبله ورفع درجته في عليين.
وبالمقابل أيها الإخوة الكرام! قد يتهاون العبد بالمعصية، ويرى ذنوبه كذبابة وقعت على أنفه، فقال بيده هكذا، يتهاون بالكذبة، ويتهاون بالنظرة، ويتهاون بالسخرية، وأحياناً من بعض أحكام الشرع، ولعلها تكون عند الله بميزان عظيم، كما قال سبحانه: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:١٥].
وأذكر لذلك مثلاً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قذف محصنة يهدم عمل مائة سنة) يعني: قذف امرأة مسلمة عفيفة في عرضها يهدم عمل مائة سنة، فلو كان للقاذف عمل صالح يعدل مائة سنة يهدمه القذف للمحصنة؛ قال أهل العلم: لأن العار الذي يلحق بتلك المرأة البريئة من جراء هذه الكلمة قد لا يزول عنها حتى تموت، وتبقى الألسنة التي لا تتقي الله تلوكها، ويبقى وزرها على من قالها أول مرة.