[سبب نزول قوله تعالى (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به)]
هناك أحوال تستوي فيها الروايتان في الصحة، ويكون نزول الآية عليهما معاً بعيداً؛ لتباعد الزمان، مثال ذلك: ما رواه البيهقي عن أبي هريرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة وقد مثل المشركون به) وكان ذلك في أحد؛ فإن المشركين جدعوا أنفه، وقطعوا أذنه، وبقروا بطنه، واستخرجوا كبده، فالرسول صلى الله عليه وسلم وقف على عمه وهو في تلك الحال فقال:(لأمثلن بسبعين منهم مكانك.
فأنزل الله عز وجل:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}[النحل:١٢٦])، فهذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه فيها أن الآية نزلت يوم أحد، وهناك رواية أخرى رواها الترمذي والحاكم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال:(لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة، فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً كهذا لنربين عليهم) يعني: لنزيدن، من الربا، والربا هو: الزيادة، ومنه قول الله عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى}[فصلت:٣٩] يعني: زادت الأرض، فهؤلاء الجماعة من الأنصار قالوا:(لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: ((وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)) [النحل:١٢٦])، فالرواية الأولى تذكر أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد، وغزوة أحد كانت في السنة الثالثة، والرواية الثانية رواية أبي تذكر أن هذه الآية نزلت يوم الفتح، والفتح كان في السنة الثامنة، فلا نستطيع أن نجمع بين الروايتين، فما عندنا إلا حل من اثنين: الأول: إما أن نحملها على تكرار النزول، وأنها نزلت يوم أحد ثم نزلت يوم الفتح؛ لأن هناك الرسول صلى الله عليه وسلم قال:(لأمثلن بسبعين مكانك)، ويوم الفتح حدث الشيء نفسه من الأنصار رضي الله عنهم، فقد كانوا مغتاظين على أهل مكة؛ لأنهم آذوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنصار ما نسوا يوم أحد، حيث شجت جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته السفلية، ودخلت حديدتان في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، حتى أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما خلع واحدة منهما ندرت معها ثنيته، فلذا قال الأنصار هذا الكلام، ولذلك سعد بن عبادة لما أخذ الراية قال: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، لا قريش بعد اليوم، فلم يسرها في نفسه، بل أعلنها قائلاً: اليوم يوم الملحمة، يعني حرباً طاحنة، اليوم تستحل الحرمة، لا شيء اسمه حرم، ولا مكة، اليوم فقط دم، لا قريش بعد اليوم!! فالرسول صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا قال:(اليوم تعظم الحرمة، ثم أخذ الراية من سعد بن عبادة وأعطاها لولده قيس بن سعد بن عبادة)، وهذا تصرف في غاية الحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرجل المحارب قد يكون فيه نوع من الرهق والاندفاع، بحكم أنه يملك السلاح، وعنده القوة، فيقع منه ما لا ينبغي؛ لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أخذها منه؛ لأن مثل هذا نفسيته غير مستقرة في هذا الوقت، ثم لكي لا ينفخ الشيطان في الأنصار، أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الراية من سيدهم وأعطاها لولده، أخذها من أنصاري ووضعها في أنصاري آخر، أخذها من سيد الأنصار، وأعطاها لولد سيد الأنصار كأنه ما تغير شيء، لكن قيس بن سعد فهم الدرس، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يهز حرمة مكة، بل يريد أن يفتح مكة بأقل قدر من الدماء.
ولذلك نقول: هذه الآية تحمل على تكرار نزولها، كما قال الزركشي رحمه الله في البرهان: قد ينزل الشيء مرتين تعظيماً لشأنه، وتذكيراً به عند حدوث سببه، وخوف نسيانه، وهناك أمثلة، فقالوا: الفاتحة نزلت مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وقالوا: آية الروح نزلت مرتين، مرة في مكة جواباً على سؤال المشركين، ومرة في المدينة جواباً على سؤال اليهود، لكن بعض العلماء أنكر مسألة تكرار النزول، ولم يبق أمامه إلا الحل الثاني وهو العمل بإحدى الروايتين وإهمال الأخرى.