قال تعالى:{إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}[قريش:٢]((إِيلافِهِمْ))، هذا المصدر قرر للتوكيد، أي: من أجل تأليفهم، ومن أجل أن يألفوا ما هم عليه، والرحلة اسم للارتحال، وهو المسير من مكان إلى مكان بعيد، ولذلك سمي البعير الذي يركب في تلك الرحلة راحلة، والشتاء هو أحد فصول السنة الأربعة المعروفة، والصيف كذلك، ورحلة الشتاء كانت إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام.
ففي رحلة الشتاء إلى اليمن كانوا يجلبون ما يريدون من جلود وأدم ونحو ذلك، وفي رحلة الصيف إلى الشام كانوا يجلبون ما يريدون من أقوات وفاكهة.
وكان أول من سن هذه الرحلة كما قال المؤرخون هو هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مكة كانت وما زالت بلداً ليس فيها زرع، وجوها ليس ملائماً لإنبات نبات، فكان أهل مكة أحياناً تصيبهم خصاصة، وتنزل بهم مجاعة في ذلك، فكان الواحد من قريش إذا أصابته خصاصة فإنه لا يسأل الناس تعففاً وعزة، وإنما يجمع عياله وأسرته ثم يذهب بهم إلى مكان معين ويضرب عليه خيمة ويبقى فيه إلى أن يهلك هو وعياله جوعاً وعطشاً، هذه كانت طريقتهم، حتى قدر الله أن بيتاً من بني مخزوم أصابتهم تلك الخصاصة، وكان يوجد ولد من بني مخزوم ترباً لـ أسد بن هاشم، أي: لولد من أولاد هاشم يقال له أسد، فقال له: غداً سنعتفر، نعتفر هو هذا المكان الذي يجلس فيه من أصابته المجاعة حتى يموت، فيسمى بيت الاعتفار.
فذهب أسد بن هاشم إلى أبيه باكياً، وأخبره الخبر، فأرسل إليهم هاشم بسمن وأقط وخبز ولحم يكفيهم، وكان رجلاً جواداً ممدحاً، حتى قال فيه الشاعر: عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسبتون عجاف كان اسمه عمراً وسمي هاشماً؛ لأنه يهشم الخبز ويصنع منه الثريد، يعني: كان يصنع الثريد ويطعم الحجيج.
فأرسل إليهم ما يكفيهم، لكن بعد حين رجعت الخصاصة كما كانت، وقال الصغير لتربه: غداً سنعتفر، سنذهب من أجل أن نجلس في بيت الاعتفار حتى نهلك، فأخبر أسد بن هاشم أباه، فقام في البيت الحرام خطيباً، فقال: يا معشر قريش! إنكم أحدثتم حدثاً به تقلون والعرب يزيدون، وبه تذلون والعرب يعزون، وأنتم أهل الله والحرم والناس لكم تبع، فبعدما بين لهم خطأ هذا الفعل، أخذ من كل رجلين من بني أب واحد، فحملهم على راحلة، وسار بهم تلك الرحلة، ومن اكتسب منهم مالاً تقاسمه بينه وبين أخيه الفقير الذي لم يكتسب، حتى قال مطرود الخزاعي: يا أيها الرجل المحول رحله هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون العهد من أطرافها والظاعنون لرحلة الإيلاف والخالطون غنيهم بفقيرهم حتى يكون غنيهم كالكافي فحصل نوع من التضامن والتكافل، وكان هاشم رجلاً ذا سياسة حكيمة وحيلة بارعة، فأقام عهوداً مع ملوك الروم، وملوك فارس، والملوك في نواحي الجزيرة العربية على أساس أنهم أهل الله والحرم فلا يتعرضوا لهم بسوء، ولذلك كانت الغارات تشن على القوافل، فإذا قيل: هذه قافلة قريش، قالوا: هؤلاء أهل الله والحرم فكفوا عنهم وتركوهم، فالله عز وجل امتن عليهم بهذه المنة:((رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)).