[مفردات الآية]
فالله عز وجل ينادينا: يا مؤمنون! ((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) أي: خرجتم مسافرين غزاة وغايتكم إعلاء كلمة الله عز وجل: ((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا))، وفي قراءة نافع وحمزة والكسائي وخلف العاشر: (فتثبتوا)، فالمراد أن الإنسان يتأكد مما يراد منه، ويتبين الأمر على وجهه الصحيح قبل أن يقدم على سفك الدم.
قوله: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ))، وفي قراءة نافع وابن عامر وحمزة وأبي جعفر ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا))، بغير ألف (السلم) أي: استسلم وانقاد لحكمكم، وعلى القراءة الأخرى: ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ)) أي: التسليم، وهي تحية الإسلام، ((لَسْتَ مُؤْمِنًا)).
وفي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع (لست مؤمّناً) أي: لن نؤمنك على نفسك، والمعنى: لا تقولوا لمن ظهر من حاله أنه مسلم أو أنه مستسلم: أنت تقول هذا الكلام تعوذاً من القتل، وطلباً للسلامة، وحذراً من بأسنا، لا عليكم بالظاهر، وكلوا إلى الله السرائر، ((وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)) أي: والحال أنكم تبتغون عرض الدنيا أغناماً كانت أو أبقاراً أو إبلاً، وهي حطام سريع النفاذ.
قال الله عز وجل: ((فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ)) أي: عند الله عز وجل خير من متاع الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام، فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم مما طلبتموه من غير طريقه.
ثم ذكرهم ربهم جل جلاله بالحال التي كانوا عليها: ((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) أي: كذلك كنتم من قبل هذه الحال تسرون إيمانكم كهذا الذي أسر إيمانه، وكنتم في مكة قلة مستضعفين في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس، وكان كثير منكم يستخفي بإسلامه، ولا يستطيع أن يجهر به بين قومه.
وقيل في معنى قول الله عز وجل: ((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) أي: أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت بها دماؤكم، وعصمت أموالكم، من غير انتظار للاطلاع على مواطئة قلوبكم ألسنتكم، بل بمجرد ما قال أحدكم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله عصم دمه وماله وعرضه، ولم يقل أحد له: لا، بل ننتظر ونتثبت هل أنت مسلم على الحقيقة أما أنك تقول ذلك حذراً من القتل، ((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ)) أي: كذلك كنتم كفرة، فهذا أيضاً من معاني هذه الآية: كذلك كنتم كفرة فمن الله عليكم بالإسلام، فلا تنكروا أن يكون ذلك الشخص كافراً ثم من الله عليه في لحظة فدخل في الإسلام.
((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) أي: بالعزة والنصر والسؤدد حتى أظهرتم إيمانكم، وأشهرتم دينكم، واستقمتم على أمر ربكم.
((كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ)) قيل أيضاً: من منّة الله التوبة، فقد تاب الله على أسامة وعلى غيره من الصحابة الذين عمدوا إلى قتل الإنسان الذي أظهر الإسلام متأولين أنه قال ذلك تعوذاً من القتل، وأما محلم بن جثامة فلم يتب الله عليه؛ لأنه تعمد قتل نفس معصومة من أجل إحنة وعداوة شخصية لا من أجل الله.
قوله: (فتبينوا) كرر الله الأمر بالتبين للتأكيد، فقال في أول الآية: ((إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا))، وهنا قال: (فتبينوا)، ثم ختم الآية بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا))، قال سعيد بن جبير رحمه الله: هذا تهديد ووعيد أي: لا تتهافتوا إلى القتل واحتاطوا فيه؛ لأن سفك الدم عند الله عظيم، ولذلك لا بد من التثبت والتبين.