للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان قدر الأئمة الأربعة]

الأمر الرابع: هذه الدراسة التي نتناولها هي على مذهب مالك رحمه الله، ولعل قائلاً يقول: ولمَ ندرس مذهب مالك؟ ولم لا ندرس غيره؟

و

الجواب

أن الأمة قد اجتمع قولها على إجلال الأئمة الأربعة، وهم: الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت، والإمام أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك الأصبحي، والإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمة الله على الجميع.

ولا يعني ذلك أنه لا يوجد في الأمة سوى هؤلاء الأئمة، بل هناك مثلهم، ومن هو أعلم منهم، ومن هو دونهم، وكلهم إمام مقدم متبوع، وعلى رأس هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، وكذلك عبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس، فهؤلاء جميعاً لهم أقوال، ولهم فقه منثور في الكتب، ثم من بعدهم: الإمام أبو سعيد الحسن بن يسار البصري، والإمام أبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي، والإمام سفيان الثوري، والإمام خالد بن يزيد الكلبي المعروف بـ أبي ثور، والإمام الليث بن سعد المصري، والإمام داود بن علي الظاهري، والإمام سفيان بن عيينة فهؤلاء جميعاً أئمة كبار، لكن قيض الله عز وجل لهؤلاء الأربعة تلاميذ حفظوا أقوالهم، وسجلوا آراءهم، وبعد ذلك نشروها، وفرعوا عليها، وقعدوا، وكتب الله عز وجل لهم القبول.

والإمام مالك رحمه الله إمام مقدم، من أئمة أهل السنة، عرف عنه العلم والورع والأدب الجم، وعرف عنه سلامة المعتقد، وصحة الاستدلال مع هيبة العلم ووقار التقى، كما قال القائل في مدحه: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان عز الوقار ونور سلطان التقى فهو المهاب وليس ذا سلطان فالإمام مالك رحمه الله إمام مقدم بين أهل السنة؛ كان قوالاً بالحق: صموت إذا ما الصمت زين أهله وفتاق أبكار الكلام المختم وقد أثنى عليه الأئمة الكبار كـ أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمة الله على الجميع.

فإذا درسنا مذهب مالك رحمه الله فإنما ندرسه؛ لأنه المذهب ولأن أقواله لا تخرج عن الكتاب والسنة مع التأكيد على أننا نعتقد -معشر أهل السنة- أنه ليس في هذه الأمة معصوم سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الذي لا ينطق عن الهوى.

أما سائر من دونه -بداية من أبي بكر رضي الله عنه الذي هو خير هذه الأمة بعد نبيها وانتهاءً بمن دونه- فالكل يؤخذ من قوله ويرد، ويخطئ ويصيب، لكن هؤلاء الأئمة الكبار صوابهم أكثر من خطئهم، ولو كان لهم أخطاء في بعض الأقوال أو الفتاوى فهذه الأخطاء سيئات مغمورة في بحور حسناتهم، ولا أعني بالسيئات ما كان ضد الحسنة؛ لأنهم مأجورون أخطئوا أو أصابوا، كما ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)، والمذموم: أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم، قال عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:٣٣]، وقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:١١٦].

والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (هلا سألوا إذ جهلوا، إنما شفاء العي السؤال)، وقال: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من ترك (لا أدري) أصيبت مقاتله، فعلى طالب العلم أن يعود لسانه على قول: لا أدري، كما كان الأئمة الكبار يفعلون ذلك.