[بيان جزاء من بخل واستغنى وكذب بالحسنى]
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:٨ - ١٠] وأما من بخل -والعياذ بالله- بحق الله، واستغنى عن رحمة الله.
{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} حين يقول: لا أبيع عاجلاً بآجل، لا أبيع نقداً بنسيئة، لا أبيع حاضراً بغائب.
{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}، أي: سنيسره للخصلة المؤذية القبيحة الشديدة.
قال أبو حيان رحمه الله: هذا على سبيل المقابلة (فسنيسره لليسرى) (فسنيسره للعسرى)؛ لأن العسرى لا تيسير فيها.
وقال العلامة الشيخ عطية رحمة الله عليه: وقد يكون التيسير حقيقياً لا مجازياً؛ فإن المشاهد من حال من خذلهم الله -والعياذ بالله- أن الواحد منهم يجد قبولاً وارتياحاً وتيسيراً في كل حرام، حتى إنه لا يستطعم الحلال، ولا يجد للحلال طعماً.
قال: وقد حدثوني أن واحداً من الناس قد احترف السرقة، فلما كثر ماله وكبرت سنه ترك السرقة، لكنه لم يصبر عليها، وهو لا يستطيع أن يمارسها بنفسه، قال: فاستأجر رجلاً وأعطاه مالاً ليسرق له ثمراً من بستان فلان، قال: فذهب الرجل المستأجر إلى بستان الرجل الخبيث نفسه، وأتاه بثمرة، فبمجرد ما أكلها لفظها، وقال: لا أجد فيها طعم السرقة، فصار يميز ويستطعم.
قارنوا حال هذا الرجل بحال أبي بكر الذي كان لا يأكل طعاماً حتى يسأل من أين هو؟ فجاءه غلامه يوماً بطعام وأبو بكر جائع فأكل لقمة، فقال له الغلام: كنت تسألني في كل ليلة، ولم تسألني في هذه الليلة؟ قال: والله ما حملني إلا الجوع، من أين أتيت بها؟ قال له: إني تكهنت لقوم في الجاهلية، أي: ادعيت أني أعرف الغيب وقرأت لهم الكف وضربت الرمل، فجعلوا لي جعلاً، فما أعطوني إلا الليلة، فابتعت لك هذا الطعام.
قال أبو بكر: لا إله إلا الله كدت تهلكني، فأخذ رضي الله عنه يشرب الماء ويضع أصبعه في فيه ويتقيأ، قال له بعض الناس: إنها لقمة.
قال: والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها، فقارنوا هذا بهذا.
قال الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:٨ - ١١] قال الإمام القرطبي رحمه الله: دلت هاتان الآيتان: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل:٥ - ٦]، مع قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:٣]، وقوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة:٢٧٤] على: أن الجود من مكارم الأخلاق، وأن البخل من أرذلها، وليس الجواد هو الذي يعطي في غير موضع العطاء، ولا البخيل الذي يمنع في موضع المنع، لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطى أجراً وحمداً فهو الجواد، وكل من استحق بالمنع ذماً أو عقاباً فهو البخيل.
قال الله عز وجل عن هذا البخيل المستغني: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل:١١] أي: إذا هوى وسقط في دركات الجحيم سيندم، ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة:٢٨]، {لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٨ - ٨٩]، {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:٣].