[قوله تعالى:(ياأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين)]
النداء السادس عشر في الآية التاسعة والأربعين بعد المائة: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[آل عمران:١٤٩]]، هذه الآية شبيهة بآية أخرى من سورة آل عمران هي قول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}[آل عمران:١٠٠]، فهذه الآية نزلت عقيب غزوة أحد، ونعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن غزوة أحد مثلت زلزالاً للمؤمنين، فقد زلزلوا زلزالاً شديداً، حيث قتل سبعون من خيارهم وجرح آخرون، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض المسلمين ألقوا بأيديهم، وبعضهم ولى مدبراً لما سمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعضهم تساءل: أنى هذا؟ يعني: كيف نهزم ونحن المؤمنون الموحدون؟ والمنافقون واليهود انتهزوها فرصة من أجل أن يشككوا المسلمين في دينهم، فقال اليهود: لو كان محمد نبياً ما غُلب، ولكنه ملك كسائر الملوك تارة يغلب وتارة يُغلب، فصوروا النبي صلى الله عليه وسلم على أنه طالب ملك، وطالب رئاسة يسري عليه ما يسري على غيره.
وأما المنافقون فقد قالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، واطلبوا الأمان منهم، فاذهبوا إلى أبي سفيان واطلبوا منه الأمان؛ لأنهم سيغزون المدينة ثانية، فأنزل الله هذه الآية:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))، والمراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أطلقت هذه الشائعات من حولهم، والعبرة بعموم اللفظ.
وقوله:((إِنْ تُطِيعُوا)) الطاعة تطلق على مطلق امتثال أمر من آمر، وقوله تعالى:((الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)) الرد: التصيير، كما مر معنا في قوله تعالى:((يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ))، وقوله تعالى:((يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ))، فالرد على الأعقاب أي الارتداد والرجوع إلى الشرك، فقوله تعالى:((يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ)) أي: فترجعوا خاسرين في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فالذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، وحرمان الوعود التي وعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين بقوله:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا}[النور:٥٥].
وقال الحسن البصري رحمه الله: معنى الآية: إن تستنصحوا اليهود والنصارى؛ وتقبلوا منهم؛ لأنهم كانوا يستغوونهم ويرمون لهم الشبه، فإن تطيعوا هؤلاء وتستنصحوهم وتقبلوا منهم، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.
وهذه الآية في معناها آيات كقول الله عز وجل في المنافقين:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}[النساء:٨٩]، وقول الله عز وجل في أهل الكتاب {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ}[البقرة:١٠٩]، وقوله تعالى:{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[آل عمران:٦٩].
وما زال الكفار في القديم والحديث مثابرين على أن يردوا المسلمين عن دينهم ويزلزلوا عقائدهم، فتارة ببعثات تبشيرية وحملات تنصيرية، وتارة بفعل أهل الاستشراق الذين استغووا كثيراً من أبناء المسلمين ممن ذهبوا إلى بلاد الغرب طلباً للعلم بزعمهم أو عن طريق الحملات العسكرية كما هو حاصل الآن، وهي حملات عسكرية سافرة، أطلقوا عليها الحرب المقدسة، وهذا كله من أجل أن يردوا المسلمين على أعقابهم فينقلبوا خاسرين.