[تفسير قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر)]
قال الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:١] (ألهاكم): أي: شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد وأنساكم طاعة ربكم، والمسارعة في مرضاة مولاكم.
يقول ابن القيم رحمه الله: التكاثر تفاعل بين اثنين، كل منهما يدعي أنه أكثر من صاحبه فيما يكاثره به، ثم يقول رحمه الله: ولو كانت كثرة من غير تكاثر لم تضر.
يعني: لو كان الإنسان عنده مال كثير، وعنده أولاد وعشيرة ورهط، ولكنه لم يكاثر غيره بها لم يضره ذلك كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان بعضهم ذوي كثرة ولم تضره تلك الكثرة، كـ أنس بن مالك رضي الله عنه لما قال: وحدثتني ابنتي أُمَينة أني دفنت بيدي هاتين مائة من ولدي، وقد كان أبو بكر والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان رضوان الله عليهم من أصحاب الأموال الكثيرة، ولم تضرهم، لكن من كاثر بالدنيا سيندم يوم القيامة، فسيسأله ربه جل جلاله عما آتاه فلا يجد جواباً، وحينها يقول: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:٩٩ - ١٠٠].
روى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالعبد يوم القيامة كأنه بذج -واحد البذجان وهو ولد الضأن- فيقول الله عز وجل له: قد أعطيتك وخولتك فما صنعت؟ يقول: يا رب قد أخذته ونميته وكثرته حتى تركته أوفر ما كان، رب ارجعني أنفقه في سبيلك، فيمضى به إلى النار)، وهذا حال من لم يعرف حق الله عز وجل في ماله.
روى الإمام مسلم عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه رضي الله عنهما قال: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر:١]، فقال: يقول ابن آدم: مالي مالي، وليس له من ماله إلا ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو تصدق فأبقى).
وجاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)، فهذا هو الذي ينفعه.
إن التنافس المحمود هو ما يكون في أمور الآخرة، فلو أن الإنسان يراقب غيره فلا تطمئن نفسه، ولا يهدأ باله إذا وجد غيره أغزر منه علماً أو أكثر منه عملاً، أو أحسن منه حالاً في علاقته مع ربه، فهكذا كان حال الصحابة رضوان الله عليهم؛ ولذلك لما جاء الفقراء يشكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا: (يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور والدرجات العلى، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال عليه الصلاة والسلام: أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن لكم بكل تسبيحه صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، فذهبوا ثم جاءوا فقالوا: يا رسول الله! سمع إخواننا بما قلت لنا فعملوا مثل ما عملنا، فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء).
وكما كان يتنافس أبو بكر، وعمر، وعندما أمر النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالنفقة قال عمر: (اليوم أسبق أبا بكر، فيذهب رضي الله عنه فيأتي بمال كثير، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: ما تركت لولدك؟ يقول: تركت لهم مثله، فيأتي أبو بكر بمال كثير فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تركت لولدك؟ يقول: تركت لهم الله ورسوله، فيقول عمر: والله لا أسابقك بعدها).
وكذلك المكاثرة بين الأوس والخزرج رضوان الله عليهم، فقد كان الخزرج لا يسمعون بخير فعله الأوس إلا فعلوا مثله، وكذلك الأوس لا يسمعون بخير فعله الخزرج إلا فعلوا مثله، ولذلك لما قتل الأوسُ الشريرَ الخبيثَ اللعينَ كعبَ بن الأشرف النضري، بادر الخزرج رضوان الله عليهم إلى قتل أبي رافع تاجر الحجاز الذي كان يعادي الله ورسوله.
إذاً: التكاثر في أمور الآخرة مطلوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها).