قوله تعالى:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)) خطاب من الله لنا.
ثم قال سبحانه:((أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ)) أي: أن بهيمة الأنعام لكم حلال، والبهيمة: كل ما لا عقل له، وسميت البهيمة بهيمة لإبهام أمرها من جهة عدم عقلها، ونقص فهمها، وعدم تمام نطقها وتمييزها، وما إلى ذلك فالدواب بهائم، والطيور بهائم، ولكن العرف خص كلمة البهيمة بذوات الأربع من دواب البر أو البحر، فكل ما كان يمشي على أربع فهو بهيمة.
قول الله عز وجل:((بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ)) إضافة تفيد البيان، أي: ليست كل البهائم حلالاً لكم وإنما بهيمة الأنعام، وهي الأزواج الثمانية من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فمن الضأن اثنين الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين التيس والمعزة، ومن الإبل اثنين الجمل والناقة، ومن البقر اثنين الثور والبقرة، هذه كلها حلال.
((أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ)) إلا ما يتلى عليكم: هي العشرة التي حرمها ربنا في الآية الثالثة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}[المائدة:٣]، فهذه العشرة حرام، ولو كانت من الإبل أو البقر أو الغنم لا يحل لكم أكلها.
((إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)) أي: إذا كنتم محرمين بالنسك بحج أو عمرة، ووصلتم إلى الحرم أو لم تصلوا فلا تستحلوا الصيد، والصيد هو: إمساك الحيوان الذي لا يألف، وهو غير الحيوانات الأليفة كالإبل والبقر والغنم، فهناك حيوانات لا تألف ولا يستطيع الإنسان أن يمسك بها إلا صيداً، إما باليد أو بوسيلة كالشباك، والحبائل، والرماح، والسهام، والكلاب، والبازات، هذه كلها وسائل صيد، ويمكن للإنسان أن يصيد بالكلب أو الباز أو السلاح أو الشباك أو بغير ذلك، فإذا كنتم محرمين فلا يحل لكم أن تصيدوا لا في الحرم، ولا في خارج الحرم.
ثم ختم الله عز وحل الآية بقوله:((إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)) أي: إن الله هو الذي يحكم وهو الذي يحلل ويحرم ويأمر وينهى ويشرع، كما قال سبحانه:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:٥٤]، وقال:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[يوسف:٤٠]، وقال:{يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}[الأنعام:٥٧]، وغير ذلك من الآيات التي تثبت أن الحكم لله، قال أهل التفسير: حكم الله على نوعين: الأول: الحكم القدري الكوني: ما يقع في هذا الكون من حياة أو موت، ومن صحة أو سقم، ومن غنى أو فقر، ومن طاعة أو عصيان، ومن هدى أو ضلال كل ذلك بحكم الله الكوني القدري، وكله بخلقه وإيجاده كما قال سبحانه:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}[التغابن:١١]، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}[الحديد:٢٢]، هذا الحكم الكوني القدري يسري على الجميع.
الثاني: الحكم الشرعي الديني: كقول الله عز وجل: هذا حلال وهذا حرام، هذا واجب وهذا ليس بواجب، فهذا كله لله عز وجل، ولا يملك أحد سواه أن يشرع للناس حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يشرع للناس بأمر الله، فتشريعه فرع عن تشريع رب العزة جل جلاله، وهو الذي قال:(ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله).