[القول بوجوب صلاة الجماعة]
القول الثاني: أن صلاة الجماعة واجبة وهو قول: عطاء بن أبي رباح والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وأبو بكر بن المنذر وابن حبان وابن خزيمة، وأهل الظاهر وهم أصحاب داود بن علي الظاهري وابن حزم فمن تركها من غير عذر؛ فهو آثم.
واستدل المالكية رحمهم الله بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد ...) إلخ.
قالوا: إن قوله: ((أفضل)) معناه: أن في كلتيهما فضيلة، ولكن إحداهما أفضل من الأخرى، أما الذين يقولون بوجوبها فيقولون: لا، بل إن صلاة الجماعة قد استأثرت بالفضل كله، فصلاة الإنسان فرداً مجزئة وتسقط عنه الواجب، لكنه قد يحمل من الإثم وزراً عظيماً، ودليلهم على هذا القول: حديث أبي هريرة في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى رجال يصلون في بيوتهم؛ فأحرق عليهم بيوتهم).
واستدلوا أيضاً بحديث أبي هريرة: (أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! إني أعمى وليس لي قائد يلائمني، والمدينة كثيرة الهوام والسباع، هل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فأذن له، فلما ولى دعاه قال: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب) رواه مسلم.
واستدلوا بأثر ابن مسعود قال: ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، وجه الدلالة من هذه الأدلة: الدليل الأول: وهو حديث أبي هريرة المروي في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الصبح).
ومعناه: أن الصلاة على المنافقين كلها ثقيلة، لكن هاتان الصلاتان أعظم ثقلاً، قال: (ولو يعلمون ما فيهما) أي: من الأجر والثواب، (لأتوهما ولو حبواً) كما يحبوا الصغير على يديه وركبتيه أو على استه.
قال عليه الصلاة والسلام: (ولقد هممت) والهم: هو العزم، (أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق ومعي رجال معهم حزم من حطب إلى رجال يصلون في بيوتهم فأحرق عليهم بيوتهم)، ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على التحريق، والتحريق عقوبة، والعقوبة لا تكون إلا على ترك واجب، أو فعل محرم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يعاقب الناس على أنهم تركوا صيام الإثنين والخميس -مثلاً- أو على أنهم تركوا ركعتين بعد صلاة المغرب، بل في حديث الأعرابي أنه لما عرف أن الصلوات خمس، وأن الصيام المفروض هو صيام رمضان، وأن الحج مرة، قال: (والله! لا أزيد عليها ولا أنقص، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).
فكون النبي صلى الله عليه وسلم نوى تحريق بيوت المتخلفين عن صلاة الجماعة، دل ذلك على أن صلاة الجماعة واجبة.
لكن المالكية والحنفية ردوا عليهم فقالوا: إذا كانت صلاة الجماعة واجبة فكيف يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم ويذهب ليحرق بيوت المتخلفين عنها، فقيل لهم: لا، بل سيرجع ويصليها بعدما يحرق بيوتهم، أو أنه يصلي الجماعة ثم يذهب ليحرق بيوتهم لتخلفهم عن صلاة الجماعة.
فرد عليهم المالكية والحنفية وقالوا: عقوبة التحريق لا تكون إلا للكفار، وهي ليست للمسلمين، فدل ذلك على أن القوم كانوا منافقين، وليسوا مسلمين أصلاً، فتحريق البيوت ليست لترك أهلها الجماعة بل لنفاقهم ولم يذكر عنه أنه أحرق بيت مسلم؛ لأنه يصلي في بيته.
فرد عليهم الحنابلة ومن معهم بقولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن المنافق كافر في الباطن لا تقبل صلاته، ولا تنفعه سواء أوقعها في البيت أو أوقعها في المسجد، أي: المنافق الذي قلبه انطوى على الكفر لو صلى لا تنفعه صلاته سواء صلى إماماً بالناس أو صلى في الصف الأول ما يزيده ذلك من الله إلا بعداً.
فقال المالكية والحنفية: إن هذا الحديث منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد).
فردوا عليهم بقولهم: أين دليل النسخ؟ وأين الدليل على أن هذا الحديث كان بعد هذا؟ لأن هذا الناسخ الذي زعمتم متأخر عن المنسوخ، وبين القوم أجوبة ومطاولات.
فأتى الحنابلة ومن معهم بالحديث الذي بعده وهو حديث الأعمى الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أعمى وليس لي قائد يلازمني، والمدينة كثيرة الهوام والسباع أتجد لي رخصة؟) طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم الترخيص، والترخيص: هو التسهيل والتيسير، فقال: أتجد لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فالرسول صلى الله عليه وسلم أذن له وقال: (صلِ في بيتك) فلما ولى دعاه وقال: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب)، قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرخص للأعمى ترك الجماعة فكيف بالبصير، والحديث صحيح رواه مسلم والنسائي.
وفي الحديث إشكالان: الإشكال الأول: كيف أذن له النبي صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم ألزمه ثانياً، قالوا: الإذن أولاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، والإلزام ثانياً جاء بوحي من الله، فالرسول اجتهد لكون الرجل أعمى فعذَرَه وأذن له أن يصلي في بيته، ومثل ذلك إذنه للمنافقين في غزوة تبوك اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم؛ فعاتبه الله بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة:٤٣] فهنا أيضاً قالوا: ترخيصه للأعمى كان اجتهاداً منه، وهذا الاجتهاد منع بالوحي، وقيل: إن الأعمى سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتجد لي رخصة أن أصلي في بيتي أي: ويكون لي أجر الجماعة؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا، أجب).
ويترتب على هذا الإشكال إشكال ثان: وهو ألم يقل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ َ} [النور:٦١]؟ وهذه تكررت مرتين في القرآن في سورة النور، وفي سورة الفتح {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ َ} [النور:٦١]، فهو أعمى وليس عنده قائد يقوده، والمدينة لم تكن شوارعها مرصوفة، ولا كانت فيها الأنوار، وهي كثيرة الهوام والسباع، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يأذن له بترك الجماعة؛ ففي هذا غاية الحرج.
رد الحنفية والمالكية عن ذلك بقولهم: قد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا الأعمى تعييناً يستطيع أن يصل إلى المسجد بدون قائد؛ لفرط ذكائه كما هو حال كثير من العميان؛ فألزمه بالحضور، فقد تجد أحياناً أعمى يمشي إلى المكان وحده، وبدون قائد، ومن لا يعرفه يحسبه بصيراً؛ إما لأنه كان يتردد عليه قبل العمى، أو لأنه ذكي ألمعي، ولذلك قد تجد بعض العميان يسلم على الإنسان، وقد طالت الدهور بينهم، فبمجرد أن يسمعه يعرفه؛ لأن الله عز وجل عوضه حاسة بحاسة.
الدليل الثالث: وهو أثر ابن مسعود، قال رضي الله عنه: يا أيها الناس! من سره أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، فلو أنكم صليتم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم؛ لضللتم، قال: ولقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.
هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود رضي الله عنه لو طبقناه الآن على المسلمين فكم يوجد من المنافقين؟ وإذا قُرنت صلاة الصبح بصلاة الجمعة في سائر المساجد؛ ففي صلاة الجمعة أكثر الناس يصلون في المسجد، ولربما يصلون تحت حرارة الشمس في الشارع، أما صلاة الصبح فنجد الناس يعدون بالأصابع، وبقية الناس أين هم؟ والذي فرض الجمعة هو الذي فرض الصبح، لكن كما قال صلى الله عليه وسلم: (أثقل صلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الصبح).
وفي بعض الأحاديث قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو يعلم أحدكم أنه يجد عظماً سميناً) لو عرف أن المسجد فيه لحم (أو مرماتين حسنتين) وهو لحم الضلوع (لشهد العشاء الآخرة).