[ترك الضم]
الخطأ الثالث: إسبال اليدين وعدم وضعهما على الصدر أو تحته، فمن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، إما فوق الصدر، وإما تحت الصدر فوق السرة، ولربما قبض عليه الصلاة والسلام بيمناه على كوع يده اليسرى، لذا لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يسدل في الصلاة.
وبعض الناس في هذه الأيام يقف مسدلاً يديه ويزداد الأمر سوءاً حين يفتح رجليه! أما الأحاديث الواردة في وضع اليدين تحت السرة كما يقول الأحناف فلا تصح.
وفي هذه المسألة شبهة يتعلق بها المالكية، وهي ما رواه ابن القاسم رحمه الله في المدونة أن مالكاً رحمه الله كان يسبل في الصلاة.
أي: يصلي مسبلاً دون أن يضم، فقال المالكية بأن السنة هي الإسبال، وأن القبض مكروه، وقال بعضهم: بأن القبض مكروه إذا كان للاعتماد، أي: للاستناد.
والجواب على هذا من وجهين: الوجه الأول: أن مالكاً روى في الموطأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (نحن معاشر الأنبياء أمرنا بثلاث: تعجيل فطورنا، وتأخير سحورنا، ووضع أيماننا على مياسرنا في الصلاة)، والقاعدة: أن الراوي إذا خالف روايته فالحجة فيما روى لا في ما رأى، فلو روى أحدهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء (يا سعد! لا تسرف، قال: أفي الوضوء سرف يا رسول الله؟ قال: نعم، وإن كنت على نهر جاري) وبعد ذلك وجدنا الذي روى هذا الحديث إذا توضأ يفتح الماء فينزل بغزارة، فليس معنى ذلك ألا نعمل بهذا الحديث؛ لأن الراوي خالفه، فالحجة فيما روى لا فيما رأى.
فلو ورد بأن مالكاً رحمه الله كان يسبل فالحجة فيما رواه في موطئه، لا فيما رآه رحمه الله.
الوجه الثاني: أن مالكاً كان يسبل؛ لأن جعفر بن سليمان يوم أن كان والياً على المدينة ضربه حتى خلع كتفه، وذلك أن مالكاً رحمه الله كان في مجلسه في المسجد النبوي الشريف يحدث بحديث: (ليس على مستكره طلاق)، أي: من كان أكره على الطلاق فطلاقه لا يقع.
فذهب أناس إلى جعفر بن سليمان فقالوا له: أيها الأمير! إن مالكاً يقول: أيمان بيعتكم هذه ليست بشيء.
وذلك أن البيعة للخليفة كانت تؤخذ بأن يحلف بالطلاق ألا يخرج على الخليفة، أو يقوم عليه بانقلاب؛ أو يريد به شراً.
ففسروا كلام مالك بأنه يقصد الخلافة والخليفة، فبعث إليه جعفر بن سليمان: ألا تحدث بحديث: (ليس على مستكره طلاق)، ثم أرسل إليه جاسوساً يسأله عن طلاق المكره.
-ومن عادة أهل العلم ألا يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ولا يشترون به ثمناً قليلاً- فقال الإمام مالك لما سئل: قال صلى الله عليه وسلم: (ليس على مستكره طلاق)، فجاء به ذلك الرجل وضربه ضرباً شديداً حتى خلعت كتفه رضي الله عنه، ثم حمله على حمار مستدبراً -أي: عكس اتجاه رأس الحمار- وطاف به في الأسواق، فكان رحمه الله -وهم يطوفون به- يقول: أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس، أقول: (ليس على مستكره طلاق)، وهكذا حتى أنزلوه من ظهر الحمار.
وبعد ذلك اعتذر إليه فيما بعد أبو جعفر المنصور وقال له: والله ما كان عن رضا منا، وإنما كان ذلك من والي المدينة، وما أمرنا ولا رضينا حين بلغنا ذلك، وحاول أن يسترضي مالكاً رحمه الله.
ولما كان أبو جعفر المنصور يناضر الإمام مالك في مسائل العلم رفع صوته، فقال له مالك رحمه الله: يا أمير المؤمنين! لا ترفع صوتك، فإن الله تعالى أدب أقواماً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:٢]، وذم أقواماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:٤]، ومدح أقواماً فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:٣].
وكان ذلك في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم استدعاه الخليفة إلى قصره وأكرمه، وكان لـ أبي جعفر المنصور ولد يأتي ينظر ثم يرجع، وهكذا، فقال له أبو جعفر: يا أبا عبد الله -يعني مالكاً رحمه الله- أتدري لما يصنع الغلام ذلك؟ قال له: لمَ؟ قال له: هيبة منك، فكان يتهيب مالكاً، وهو الذي مدح بقول القائل: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان أدب الوقار وعز سلطان التقى فهو المطاع وليس ذا سلطان حتى الولاة كانوا إذا وقفوا أمامه يبتعدون فيرتعدون؛ لأنه خاف من الله فهابه الناس.
المقصود أن مالكاً رحمه الله لو أسبل فإنه معذور؛ لأن كتفه قد خلع، والإنسان إذا خلعت كتفه لا يستطيع أن يرفع يديه، فضلاً عن أن يضمها إلى صدره.
والحجة فيما رواه مالك لا في ما كان يفعله رضي الله عنه.