النداء الخامس عشر: قول ربنا تبارك وتعالى في الآية الثلاثين بعد المائة من سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران:١٣٠]، هذه هي المرحلة الثانية من مراحل تحريم الربا، وكان في المرحلة الأولى قول الله عز وجل:{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ}[الروم:٣٩]، وفي هذه الآية حرم الله عز وجل تضعيف الربا إلى أن جاءت آيات سورة البقرة وهي آخر ما نزل من الأحكام فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}[البقرة:٢٧٨ - ٢٧٩].
وهذه الآية جاءت في ثنايا الحديث عن غزوة أحد، فقبلها قول الله عز وجل:{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا}[آل عمران:١٢١ - ١٢٢]، ثم بعدها أيضاً حديث عن غزوة أحد في آيات طويلة، ولذلك تحير المفسرون رحمهم الله في علة ذكر الربا في أثناء الحديث عن غزوة أحد، حتى قال الفخر الرازي رحمه الله: لا أحفظ في ذلك سبباً مروياً، هذا كلام ابن عطية الغرناطي.
وبعض المفسرين أراد أن يجد علة فقال: لما أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا عقبه ببيان أن الوعيد لا يخصهم، بل يتناول العصاة، فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة، فذكر ربنا في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى، وهذا كلام مقبول، فإنه نهى عن أكل الربا، وفي الآية التي بعدها ذكر الحث على التقوى، فقال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران:١٣٣]، ثم ذكر من هم المتقون فقال:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران:١٣٤ - ١٣٥]، فذكر أهم خصال المتقين التي يجب أن يتحلوا بها.
والآية تنهى عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة، وهذه عادة أهل الجاهلية، فقد كان إذا حل الدين على المعسر ولم يحصل منه شيء قالوا له: إما أن تقضي ما عليك من الدين، وإما أن نزيد في المدة وتزيد ما في ذمتك بمعنى: أمهلني أزدك، فيترتب على ذلك أن المدين يستبشع غريمه اضطراراً ويلتزم في ذمته مالاً زائداً اغتناماً لراحته الحاضرة، فإما أن يقضي أو يرتب في ذمته هذا الدين أضعافاً مضاعفة فنهاهم الله عز وجل عن ذلك قال سبحانه:((لا تَأْكُلُوا الرِّبَا))، فقدم الأكل دلالة في أن الأكل يعم جميع أنواع الانتفاع، كما في قوله تعالى:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة:٥٧].
وقوله:((لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً))، ضعف الشيء مثله، فتصير أربعة، وليس معنى هذا أن الربا لا يكون حراماً إلا إذا كان أضعافاً مضاعفة، أما إذا كان دون ذلك فيجوز، فالأربعة في المائة والخمسة والسبعة والتسعة ليست أضعافاً مضاعفة، وليست داخلة في نطاق التحريم، لا، فالأضعاف المضاعفة وصف لواقع وليست شرطاً يتعلق به الحكم، مثاله قول الله عز وجل:{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}[النور:٣٣] يعني: حرام عليك أن تكره فتاتك على الزنا إن أرادت التحصن، فنقول: إن لم ترد التحصن أيصح لك إكراهها أو أن تسمح لها بالزنا؟
الجواب
لا يصح، لكن الله عز وجل يصف واقعاً معيناً، وذلك أن رجلاً من المنافقين هو ابن سلول كان عنده فتيات يكرههن ويدير بهن بيوتاً للبغاء.
مثال آخر: قول الله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ- إلى أن قال- وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}[النساء:٢٣]، لو كانت بنت زوجتك ليست في حجرك وإنما تربت عند جدتها أو في بلدة أخرى، أيحل لك نكاحها؟
الجواب
لا يحل، فقول الله عز وجل ((فِي حُجُورِكُمْ)) وصف لواقع، كما يقول أهل الأصول: وصف كاشف وليس قيداً للاحتراز، وهنا أيضاً وصف لواقع أن العرب كانوا يأكلون الربا أضعافاً مضاعفة والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا بلا تحديد ولا تقييد ((وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا)) أياً كان.