للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب الأكل من الطعام الحلال ووجوب شكر الله على نعمه]

الآية الثانية والسبعون بعد المائة من سورة البقرة، وهي النداء الثالث من الرحمن جل جلاله لعباده المؤمنين، قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:١٧٢].

فالله عز وجل ينادي المؤمنين في هذه الآية ويأمرهم بأمرين اثنين: الأمر الأول: (كلوا)، والأمر الثاني: (اشكروا).

قال أهل التفسير: الأكل يعم جميع أنواع الانتفاع، كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:٢٩]، وكما قال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:١٣].

وفي هذا تبكيت للمشركين الذين حرموا ما أحل الله عز وجل، فقد حرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وشرعوا في الدين ما لم يأذن به الله، {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} [الأنعام:١٣٨ - ١٣٩]، فهذا تحليل وتحريم بغير إذن من الله عز وجل، فالله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا} [البقرة:١٧٢]، كما قال في آية أخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:٨٧ - ٨٨]، الطيبات قيل: هي الحلال، وقيل: المستلذ، ولا تعارض، فإن الأكل مطلوب من الحلال ومن المستلذ.

يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: أسند الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة؛ لأنه في معرض الامتنان والإحسان، ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ))، وفيه إشارة إلى أن المستحق للشكر هو الله وحده، وليست الأصنام؛ لأنها باعتراف المشركين ما رزقت أحداً، كما قال سبحانه: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [فاطر:٣].

فنحن مأمورون بالأكل من الحلال، وقوله: ((كلوا)) قال أهل التفسير: هذا الأكل قد يكون واجباً لدفع الضر، كما لو كان إنسان على شفا هلكة إن لم يأكل هلك، فواجب عليه أن يأكل، ويكون مندوباً إذا أريد به مؤانسة الضيف، أي: لو أن عندك ضيفاً وأنت لا تريد الطعام فإنه يندب لك أن تأكل من أجل أن تؤنسه، وقد يكون الأكل مباحاً عند انتفاء الدواعي والموانع، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)).

والأكل من الحلال هو سمة عباد الله الصالحين، والأكل من الحرام والعياذ بالله سواء كان محرماً لذاته كالخنزير والميتة أو كان محرماً من جهة كسبه؛ لأنه من ربا أو غش أو اتجار في حرام أو أكل لأموال الناس بالباطل هو سمة الفجار؛ ولذلك أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به).

وأخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: (ما من عبد يكتسب من مأثم فيتصدق به أو ينفقه على أهله أو ينفقه في سبيل الله إلا جمع الله ذلك كله ثم طرحه في النار)، فالنفقة من الحرام لا تتقبل عند الله عز وجل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون:٥١]، وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) [البقرة:١٧٢]، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى في مطعمه، (فقد وجد تمرة عليه الصلاة والسلام فقال: لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها).

وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أكل طعاماً وهو لا يعرف من أين اكتسب، ثم تبين له أنه ناتج عن كهانة؛ أدخل يده رضي الله عنه في فمه وما زال يتقيأ حتى أخرج ذلك الطعام، فلما قيل له: إنها لقمة يسيرة، قال: والله لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها! وقد قال بعض السلف: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنة بدوام المراقبة، وتغذى بالحلال؛ أورثه الله عز وجل فراسة لا تخطئ.

فلو أن إنساناً في ظاهره اتبع السنة، وفي باطنة راقب الله عز وجل، وكانت طعمته حلالاًً، فإن الله عز وجل يرزقه فراسة الصالحين، بحيث يستدل بالمحسوس على المغيب، قال الله عز وجل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)).

فقد أتي بالاسم الظاهر مكان الضمير، وكان يمكن في غير القرآن أن يقال: كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لنا، أو واشكروا لرازقكم، لكنه أتى بالاسم الظاهر ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ))؛ لأن في الإتيان بالاسم الظاهر إشعاراً بألوهيته جل جلاله، وأنه المستحق للشكر وحده ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ)).

والشكر في اللغة الظهور، ومنه يقال: دابة شكور، إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف، فإذا كانت كذلك فإنها تسمى دابة شكورة، ولذلك لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل سيهلك يأجوج ومأجوج قال عليه الصلاة والسلام: (حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم)، لتشكر يعني: تسمن.