افتتحت هذه السورة بفعل الأمر (قل)، وعندنا في القرآن خمس سور افتتحت بـ (قل) وهي: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ}[الجن:١]، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:١]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:١]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}[الفلق:١]، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}[الناس:١].
قوله سبحانه:(قل): هذا الأمر مشعر بالاهتمام بما بعد القول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغه للناس بوجه خاص، وبتبليغ الدين كله بوجه عام قال الله:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}[المائدة:٦٧]، فالدين كله هو مأمور بتبليغه صلوات الله وسلامه عليه، لكن هذا أمر لابد من العناية به تمام العناية، فقال:(قل -أي: يا محمد-: يا أيها الكافرون)، أي: يا عاص، ووليد، وأسود، وأمية، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:٢].
يقول العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بهذا الوصف القبيح تحقير لهم، واستخفاف بشأنهم، وإشعار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهابهم؛ لأنه محفوظ من ربه، فما قال: يا أيها الناس، وما قال: يا من عرفتم هذا العرض، لا، بل:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:١]، يا من كفرتم بالله، يا من جحدتم بالنبوة، يا من كذبتم بالبعث والمعاد، يا من اتصفتم بالكفر ماضياً وحاضراً {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:٢]، أي: لا أعبد ما تعبدون من آلهة باطلة، وأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ولا تغني عني شيئاً.
{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:٣] أي: ولا أنتم -أيها المشركون- تعبدون الإله الحق الجليل العظيم الذي أعبده، و (ما) هنا بمعنى من، وهي مثل قول الله عز وجل:{وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}[الشمس:٥] أي: والسماء ومن بناها، وقول الله عز وجل:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ}[الليل:١ - ٣] أي: ومَن خلق الذكر والأنثى.
ويرى ابن القيم رحمه الله بأنه جيء بـ (ما) ههنا؛ لأن المقصود الصفة وليس الذات، كما في قول الله عز وجل:{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}[النساء:٣] فالمعنى: من طاب لكم من النساء، لكن لما كان الأمر منصباً على وصف الطيب جيء بـ (ما)، وهكذا ههنا المشركون يعبدون إلهاً لكن لا يعرفون صفاته جل جلاله وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ينبغي أن يفرد بالعبادة وحده.