بعد هذه الأهوال اجتمع الناس في عرصات القيامة، فنصبت الموازين، قال عز وجل:{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}[الأنبياء:٤٧].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الميزان له لسان وكفتان، وهو ميزان حقيقي توزن فيه الأعمال، وتوزن فيه الصحف، ويوزن فيه الأشخاص، كما جاء في آخر سورة الكهف قول الله عز وجل:{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}[الكهف:١٠٥] أي: هؤلاء المتكبرون المتغطرسون، الذين كان أحدهم إذا تكلم مال بفمه ذات اليمين وذات الشمال، وإذا مشى يمشي على الأرض مختالاً متكبراً، يتبختر في مشيته يوم القيامة، فهؤلاء يحشرون كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم كأنهم ذباب أو بعوض لا قيمة لهم.
والله عز وجل ينصب تلك الموازين ثم ينقسم الناس مع تلك الموازين إلى قسمين: الأول: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:٦] أي: من ميزانه ثقيل بالحسنات وبالأعمال الصالحات، فجزاؤه كما قال الله:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}[القارعة:٧].
الثاني:{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ}[القارعة:٨] أي: ليس فيها حسنات، فجزاؤه كما قال الله:{فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}[القارعة:٩].
أما كيف يثقل الميزان أو يخف فإن أبا بكر لما كان في سكرات الموت أوصى عمر رضي الله عنه وقال له: واعلم يا عمر أنه ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق أن يكون ثقيلاً يوم القيامة، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفاً يوم القيامة.
وأكثر ما يثقل به الميزان كلمة لا إله إلا الله، من قال هذه الكلمة موقناً بها خالصاً من قلبه، معتقداً حقيقتها، بأنه لا معبود بحق إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا الله، فميزانه ثقيل يوم القيامة، وقد ذكر الرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قصة الرجل الذي ينادى به يوم القيامة على رءوس الأشهاد، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فيها سيئاته وخطيئاته، فتوضع هذه السجلات فيقول الله عز وجل له:(يا ابن آدم! هل ظلمك الكرام الكاتبون؟ يقول: لا يا رب، هل نقصوا من حسناتك شيئاً؟ يقول: لا يا رب، هل لك من حسنة ترجوها؟ فالرجل يتردد فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة لا ظلم اليوم، فتنشر له بطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله توضع في كفة حسناته، فتطيش تلك السجلات وترجح بهن لا إله إلا الله).
وليس معنى ذلك أنه قالها بلسانه دون اعتقاد وعمل، لكنه قال: لا إله إلا الله موقناً بها معتقداً حقيقتها عاملاً بما استطاع، لكن غلبته نفسه وغلبت عليه شقوته وشهوته فنجاه إخلاصه.
وهذا يفسر به قول النبي عليه الصلاة والسلام:(من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، أي: قالها مخلصاً، فثقلت موازينه بلا إله إلا الله وبالطاعات.