إليه فأحضر وحضر جميع الندماء والجلساء، فدخل بهم إلى مجلس قد أعدّ فيه طبقا عظيما فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء قد ألقي فيها اللآلىء مثل الحصباء، وفي البركة حية تسبح فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى، لأنه قد زعم هؤلاء القوم أن كلّ ما تأتي به دعوى، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله فصفه بجميع ما فيه، فقال له صاعد على البديهة:
أبا عامر هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف
يسوق إليك الدهر كلّ غريبة ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف
وشائع نور صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقر ورفارف
ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي وصائف
كمثل الظباء المستكنّة كنّسا ... تظللها بالياسمين السقائف
وأعجب منها أنّهنّ نواظر ... إلى بركة ضمّت إليها الطرائف
حصاها اللآلي سابح في عبابها ... من الرّقش مسموم الثعابين زاحف
ترى ما تراه العين في جنباتها ... من الوحش حتى بينهن السلاحف
فاستغربوا له تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذّف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت إلا انك أغفلت ذكر السفينة والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادة في سفينة ... مكلّلة تصبو إليها المهاتف
إذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكّانها ما هيّجته العواصف
متى كانت الحسناء ربّان مركب ... تصرّف في يمنى يديه المجاذف
ولم تر عيني في البلاد حديقة ... تنقّلها في الراحتين الوصائف
ولا غرو أن انشت معاليك روضة ... وشتها أزاهير الربى والزخارف