كتابا سماه «الرحل» وهي ست عشرة رحلة، أهداها إلى هبة الله بن الفضل بن صاعد بن التلميذ في سنة اثنتين وخمسمائة، بنى كل رحلة منها على حادثة تمت ونادرة اتفقت له أو لوالده.
فمن رحله «١» :
«وصية لكل لبيب، متيقظ أريب، عالم أديب، يكره مواقف السقطات، ويتحفظ من مصادف الغلطات، ويتلطف من مخزيات الفرطات، أن يدّعي دون مقامه، ويقتصر من تمامه، ويغضّ من سهامه، ويظهر بعض شكيمته، ويساوم بأيسر قيمته، ويستر كثيرا من بضاعته، ويكتم دقيق صناعته، ولا يبلغ غاية استطاعته، وأن يعاشر الناس بصدق المناصحة، وجميل المسامحة، وأن لا يحمله الاعجاب بما يحسنه، على الازراء بمن يستقرنه، والافتراء على من يعترضه ويلسنه، ليكون خبره أكثر من خبره، ونظرته أروع من منظره، ويكون أقرب من الاعتذار، وأبعد من الخجلة والانكسار:
فليس الفتى من قال إني أنا الفتى ... ولكنه من قيل: أنت كذلكا
وكم مدّع ملكا بغير شهادة ... له خجلة إن قيل أن لست مالكا
ولقد نصرت بالاتضاع، على ذي نباهة وارتفاع، وذلك أني أصعدت في بعض الأعوام، مع جماعة من العوام، بين تاجر وزائر، إلى الغريّ والحائر، حتى انتهينا إلى قرية شارعة، آهلة زارعة، وما منا إلا من أملّته السميريّة فأغرضته، وأسقمته وأمرضته، وفترته فقبضته، وكثر منا الجؤار، واستولى علينا الدّوار، فخرجنا منها خروج المسجون، وقد تقوسنا تقوّس العرجون، فاسترحنا بالصعود، من طول القعود: