الديوان تخبر بسوء أدبه واستخفافه، وذاك أنه كتب كتابا وجعل بين السطر والسطر شبرا وهذا لا يكون إلّا من الفاضل إلى المفضول. وبلغني أيضا أنه يرى انتقاضنا وذهاب دولتنا دينا، فقلت: إن رأى استحضار المكتوب والوقوف عليه، فأحضر فرأيت أبلغ كتاب وأحسن عبارة فقلت: هذا كتاب معدوم المثال وكاتبه أوحد عصره، وما كتبوا في أمره بما كتبوا إلّا حسدا له، فإن رأى إحضار كاتبه وسماع لفظه والعمل بموجب المشاهدة رجوت أن يكون ثوابا وصوابا. فكتبت بتسييره مكرّما، فما كان إلّا مسافة الطريق حتى أحضر إلى مجلس الظافر وأنا حاضر، فرأيت شابا ظريفا بثياب قصار وأكمام لطيفة وطيلسان، فوقف بين يديّ الظافر، فقال الظافر: اختبره في شيء من الرسائل، فقلت له: مولانا يأمرك أن تكتب منشورا لأحد أولياء دولته يتضمّن توليته ما وراء بابه، فقال: السمع والطاعة، فقرّبت منه دواة فأخذ يكتب وهو قائم، وكان إذا أراد أن يستمدّ انكبّ إلى الدواة ثم وقف فكتب، فلما أن رأى الظافر جريان قلمه وثبات جنانه، أمر خادما أن يحمل له الدواة، ثم فرغ من الكتابة وهو قائم على رجله، فتناوله الخادم وعرضه على الظافر، فاستحسن خطّه وكان خطّا مليحا رائقا على طريقة ابن مقلة، وقال لي: اقرأه، فقلت: يا مولانا اسمعه من منشئه فهو أحسن، فقرأه بلسان حادّ وبيان صادق، فلما استتم قراءته أمر الظافر بقلع طيلسانه وأخذ عذبة عمامته وفتلها وتحنيكه بها، ففعل به ذلك. ولم يزل في الديوان مدّة أيام الظافر والفائز والعاضد.
فلما استعلى الضرغام على شاور وتولّى الوزارة، وهرب شاور إلى الشام وقبض على ولده الكامل وأودعه السجن خدمه الفاضل ومتّ إليه بخدمة قديمه. ثم إن الضّرغام تنكّر على الفاضل فمضى من فوره إلى ملهم أخي ضرغام واستجار به، وكان ملهم هو الكبير وكان ترفّع عن الولاية، فأمره بملازمة داره حتى يصلح أمره، فاتّفق أن قرن بالكامل بن شاور في محبسه وحبس معه وحصل له بذلك يد بيضاء عنده. ورجع شاور إلى الديار المصرية بصحبة شيركوه، وقتل الضرغام وأخوه ملهم وبنوه، وعادت الوزارة إلى شاور. وركب ابنه الكامل من دار ملهم ومعه القاضي الفاضل حتى دخلا على شاور وعرّف الكامل أباه شاور حقوق الفاضل عليه وحسن ولائه.