وحدثني الصاحب الوزير الأكرم- أدام الله تمكينه- قال: خرجت يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان عشرة وستمائة إلى ظاهر مدينة حلب على سبيل التسيير، فرأيت على جانب قويق عدة مشايخ بيض اللحى وقد سكروا من شرب الخمر، وهم عراة يصفّقون ويرقصون على صورة منكرة بشعة، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ورجعت مغموما بذلك، وبتّ تلك الليلة فلما أصبحت وركبت للطلوع إلى القلعة استقبلني رجل صعلوك فقال: انظر في حالي نظر الله إليك يوم ينظر إليه المتقون، فقلت له: ما خبرك؟ قال: أنا رجل صعلوك، وكان لي دويبة «١» أسترزق عليها للعائلة، فاتهمني الوالي بالحول «٢» بسرقة ملح، فأخذ دابتي، ثم طالبني بجباية فقلت: خذ الدابة فقال: أخذتها وأريد جباية أخرى؛ فقلت له: أبشر بما يسرّك، وطلعت إلى صاحب الأمر يومئذ- وهو الأمير الكبير أتابك طغرل الظاهري- وقلت:
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ثلاثة أشياء مباحة الناس مشتركون فيها، الكلأ والماء والملح، وقد جرى كيت وكيت، ولا يليق بمثلك وأنت عامة وقتك جالس على مصلّاك مستقبل القبلة والسبحة «٣» في يدك أن تكون مثل هذه الأشياء في بلدك، فقال: اكتب الساعة إلى جميع النواحي برفع الجبايات ومحو اسمها أصلا، ومر الولاة أن يعملوا بكتاب الله وسنة رسوله، ومن وجب عليه حدّ من الحدود الشرعية يقام فيه على الفور ولا يلتمس منه شيء آخر، ومر الساعة بإراقة كلّ خمر في المدينة ورفع ضمانها، واكتب إلى جميع النواحي التي تحت حكمي بمثل ذلك، وأوعد من يخالف ذلك عقوبتنا في الدنيا عاجلا وعقوبة الخالق في الآخرة آجلا، فخرجت وجلست في الديوان وكتبت بيدي ولم أستعن بأحد من الكتاب في شيء من ذلك ثلاثة عشر كتابا إلى ولاة الأطراف، ثم أنشد:
ولا تكتب بكفك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه
وكان المحصول من ضمان ما أطلق ما مقداره مائتا ألف درهم في السنة، وإن أضيف إليه ما يستقبل في السنة الآتية من رخص الكروم وتعطّل ضماناتها وقلة دخلها