وانتظم الناس من الجانبين جميعا ينظرون إلى زيادة الماء، فبينا أنا واقف إذا بزورق قد أقبل والموج يخفيه مرة ويظهره أخرى، والناس يقولون: غرق غرق، نجا نجا، حتى دنا من الشطّ «١» ، فإذا عمارة بن حمزة في الزورق بلا شيء معه، وقد خلّف دوابّه وغلمانه في الموضع الذي ركب منه، فلما رأيته نبل في عيني وملأ صدري، فنزلت وعدوت إليه فقلت: جعلت فداك، في مثل هذا اليوم؟! وأخذت بيده فقال: أكنت أعدك وأخلف يا ابن أخي؟ اطلب لي برذون كراء «٢» ، قال فقلت: برذوني، فقال هات، فقدمت إليه برذوني فركب وركبت برذون غلامي وتوجه يريد أبا عبيد الله، وهو إذ ذاك على الخراج، والمهدي ببغداد خليفة للمنصور، والمنصور في بعض أسفاره؛ قال: فلما طلع على حاجب أبي عبيد الله دخل بين يديه إلى نصف الدار ودخلت معه، فلما رآه أبو عبيد الله قام عن مجلسه وأجلسه فيه وجلس بين يديه، فأعلمه عمارة حال الرجل وسأله إسقاط خراجه وهو مائتا ألف درهم وإسلافه من بيت المال مائتي ألف يردّها في العام المقبل، فقال له أبو عبيد الله: هذا لا يمكنني، ولكني أؤخره بخراجه إلى العام المقبل، فقال له: لست أقبل غير ما سألتك، فقال أبو عبيد الله: فاقنع بدون ذلك حتى توجدني السبيل إلى قضاء حاجة الرجل، فأبى عمارة، وتلوّم أبو عبيد الله قليلا، فنهض عمارة فأخذ أبو عبيد الله بكمه وقال: أنا أحتمل ذلك في مالي، فعاد إلى مجلسه وكتب أبو عبيد الله إلى عامل الخراج باسقاط خراج الرجل لسنته والاحتساب به على أبي عبيد الله وإسلافه مائتي ألف درهم ترتجع منه في العام المقبل. فأخذت الكتاب وخرجنا فقلت له: لو أقمت عند أخيك ولم تعبر في هذا المدّ، قال: لست أجد بدا من العبور، فصرت معه إلى الموضع ووقفت حتى عبر:
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ودخل «٣» عمارة يوما على المهدي فأعظمه، فلما قام قال له رجل من أهل المدينة من القرشيين: يا أمير المؤمنين من هذا الذي أعظمته هذا الاعظام كله؟!