للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لبود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما من معتقة اليهود، وأبخّركما بعنبر وعود، أطيب من الندود، وأغنيكما غناء المسدود [١] . فقلت: هذا موضع السجود. وجلسنا وصديقي لا يعرف خلّته في الفساء، وأنا قد أخذت الريح [٢] ، فوفى لنا بجميع ما ذكره، وقال لنا وقد غنى وشربنا: نحن بالغداة علماء وبالعشي في صورة المخنكرين [٣] . فلما أخذ النبيذ منه أخذ يفسو وصديقي يغمزني ويتعجب، فأقول له: إن ذلك عادته وخلّته، وأن سبيله أن يحتمل إلى أن غنّى صوتا من الشعر والصنعة له فيه وكان يجيده:

إن بالحيرة قسا قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن

ترك الإنجيل حينا للصبا ... ورأى الدنيا مجونا فركن

قال: فطرب عليه صديقي طربا شديدا واستحسنه كثيرا وأراد أن يقول له:

أحسنت والله يا أبا الحسن، فقال له ما في نفسه يتردد من أمر الفساء: افس عليّ يا أبا الحسن كيف شئت، فخجل جحظة وخجل الفتى وانصرفنا.

وحدث الخطيب عن أبي الفرج الاصبهاني قال [٤] : حدثني جحظة قال:

اتصلت عليّ إضافة أنفقت فيها كلّ ما أملكه حتى بقيت ليس في داري سوى البواري [٥] فأصبحت يوما وأنا أفلس من طنبور بلا وتر- كما يقال في المثل- ففكرت كيف أعمل فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد [٦] الكاتب، وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرّف قبل ذلك بسنتين وحالفه النقرس فأزمنه حتى صار لا يتمكن من التصرف إلا محمولا على الأيدي أو في محفة، وكان مع ذلك على غاية الظّرف وكبر النفس وعظم


[١] المسدود: مغنّ (انظر الأغاني ٢٠: ٢٥٠) .
[٢] زاد هنا لفظة «فوقي» ولم ترد في الهفوات والنشوار (وهي تكرار للكلمة التالية) .
[٣] المخنكرون: المجان.
[٤] تاريخ بغداد ٤: ٦٦- ٦٧ والفرج بعد الشدة ٢: ٣٦٥.
[٥] البواري: الحصر، المفرد: بارية.
[٦] هو محمد بن يحيى بن أبي عباد جابر العسكري. وقد مرّ ذكره.

<<  <  ج: ص:  >  >>