القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
وعن إبراهيم بن المهدي قال: حدثني السعيدي الراوية وأبو إياد المؤدب قالا:
كنا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها واشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا المفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث مليا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال المفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم، ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أني توهمته كان يفكر في قوله أو يروّي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا، أو كان مفكرا في شيء من شأنه فتركه وقال:
دع ذا، فأمسك المهدي عنه، ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشد:
لمن الديار بقنّة الحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر
قفر بمندفع النجائب من ... ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعدّ القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر
قال: فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بدّ من استحلافك عليه، ثم استحلفه بأيمان البيعة وكلّ يمين محرجة ليصدقنّه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثق منه، فقال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقرّ له حينئذ أنه قائلها، فأمر له وللمفضل بما أمر به من صلة وشهرة أمرهما وكشفه.