وإذا اتفق أمران فاتّباع ما هو أسلم جانبا وأقلّ غائلة أولى، وقد كان الآن ما كان، والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام ورد عليه من آمد صاحب أبي العباس ابن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبّس به من العدالة، وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة وألفاظ حسنة ومعان منتقاة، وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد، وممن لازمه سنين عدة، وعلّق عنه- على ما ذكره الشاشي- زهاء عشرة آلاف ورقة على شرحه لكتاب سيبويه وغيره درسا ومذاكرة، وكانت له أيضا بضاعة قوية في علم الهيئة وبصر تامّ بمذهب الكوفيين في النحو حتى ما كان يطاق. وكان من أصدر الكتاب على يده رجلا كرديا عليه جبة ثقيلة فوقها جبّاعة عظيمة، قد أضرّت به شمس الهواجر، ومقاساة السفر، وقطع المهامه والمفاوز، وكان الشيخ يبيّن لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى: مثل ما إنكم تنطقون
(الذاريات: ٢٣) والاحتجاج عمن نصبه ورفعه، والكرديّ ما يفهم منه القليل ولا الكثير، ثم التفت إلى أبي سعيد وقال: يا شيخ في أيّ شيء أنت؟ وفي ماذا تتكلم؟ فقال: أتكلم في شيء لا يعرفه كلّ أحد، ولا يتصوره كثير من الناس، قال: ففسّره لي لعلي أفهمه، قال: لا يكون ذلك أبدا، قال: أنت عالم ومن اقتبس منك علما لزمك الجواب، فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه وتنتفع به، فأخذ الكرديّ في المطاولة وإيراد الهذيان وما لا محصول له، وسكت عنه أبو سعيد وصمت هو أيضا، وجعل أبو سعيد على عادته يبيّن ويوضّح ويتكلم وينثر الدرّ ولا يهدأ ولا يفتر لسانه ولا يجفّ ريقه، والكرديّ ملازمه، وكأنّه كالمتبرم به والمستثقل لجلوسه وملازمته إياه إلى أن قام ومضى؛ ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلا تمكّن من أحد تمكّن هذا منّا اليوم، وإنّ ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إليّ، لقد هممت تارة بضربه فقلت: ربما ضربني أيضا، ثم هممت بالقيام فقلت: ضرب من الخرق، ثم كدت أصيح فقلت: نوع من الجنون، ثم بقيت أدعو سرّا وأرغب إلى الله تعالى في صرفه، فتفضل الله الكريم عليّ بذلك، ومع هذه الحالة لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني، فقلنا له: وما الأبيات؟ فقال:
أيا شقيق الرصاص والجبل ... ويا قريع الأيام في الثّقل