للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد أشار ثابت السرقسطي والسيرافي وابن هشام إلى إبداء الرأي في كيفية الحذف التي اعتورت هذا التركيب، وأبقت فيه إفادةَ معنى التكثير أو معنى ربما أو غير ذلك، وهو واضحٌ من كلامهم. ومنه يظهر ترددُهم في منشأ معنى التكثير من هذا التركيب: فمقتضى كلام السرقسطي وما نقله عياض عن غيره أن منشأه هو حرف ما، ومقتضى كلام ابن هشام أن منشأ ذلك هو حرف من، ولذلك ذكره في عداد معاني "من".

وقد مضت عصورٌ على هذا التركيب لَم يُحظ فيها بالنزوع إلى عِكْرِه (١) وحضن فراخه في وكره؛ فقد أهمله الجوهري في الصحاح، وابن منظور في كتاب لسان العرب، وأهمله أصولهُما (٢) لا محالة، وأهمله ابن الأثير في النهاية. فكان ذلك قصورًا في إحصاء اللغة إلى أن قُيِّضت له يقظةُ العلامة الفذ الفيروزآبادي فآواه إلى "القاموس المحيط"، فقال في باب الألف اللينة عند الكلام على حرف ما: "وإذا أرادوا المبالغةَ في الإخبار عن أحدٍ بالإكثار من فعل كالكتابة، قالوا: إن زيدًا مما أن يكتب، أي أنه مخلوقٌ من أمر، ذلك الأمر هو الكتابة". (٣)

وأقره صاحبُ تاج العروس، فلم يشرحه ولا تَعَقَّبه، ولا بَيَّنَ مأخذَه، ولا استشهد له، خلافًا لطريقته، فدل على أنه لَم يطَّلع في هذا على شيء يرجع إليه. وإن اهتداء صاحب "القاموس" إلى ذكر هذا الاستعمال، وتفطنَه إلى أنه يأوي إلى موضوع علم اللغة، واختصاصه بذلك دون سائر كتب اللغة، لَمِنْ جملة تدقيقاته وخصائصه، فلله دره!

ثم إنه بلا شك أخذه من كلام السيرافي، وإن سكوتَ صاحب التاج (تاج العروس) عن بيانه تقصيرًا في التزامه الذي اعتاده، لدليلٌ على سكوت المعلِّقين على


(١) العِكْر: الأصل، والعادة والديدن.
(٢) يعني مَنْ اعتمد عليه الجوهريُّ وابنُ منظور في تآليفهما.
(٣) الفيروزآبادي: القاموس المحيط، ج ٤، ص ٤٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>