للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معجزة الأمية (١)

صفةُ الأمية الثابتة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نصفه بالنبي الأمِّيِّ هي معجزةٌ من أعظم معجزاته، وهي على عِظَم أمرها لا نجد الكلامَ عليها مشبعًا مؤتلفًا في كتب السيرة والكلام، فكان حقًّا علينا أن نوفيها حقَّ البحث والتحقيق إيفاءً لما بقي علينا حقُّ الإيفاء به من السيرة وإيرافًا لظلالها.

إنما كانت الأميةُ من أعظم معجزات الرسول؛ لأن بها كمالَ إعجاز القرآن الذي هو أعظمُ معجزة وأبقاها، ولأنها معجزةٌ قائمة بذات الرسول يشاهدها كلُّ مَنْ عرفه قبل النبوة، وكلُّ مَنْ آمن به وصاحَبَه، وكل مَنْ بلغ إليه من خبره ما سارت به الركبان وتحدث به الأضداد والخلان. أما بقية معجزاته، فقائمة بذوات أخرى، ولكن انتسابها إليه من جانب تحديه بها، أو لكونها من آثاره، أو لكونها من فعله.

فانشقاقُ القمر حادثٌ كائنٌ في غير ذات الرسول، وهو معجزةٌ له لتحديه به، ونَبْعُ الماء وتكثيرُ الطعام حادثٌ كائن في الماء وفي الطعام من أثر وضع يده المباركة فيهما، وردُّه عين أبي قتادة الأنصاري حادث قائم بعين أبي قتادة، وهو معجزة للرسول لكونه من فعله.

وبعد فإن للأمية شرفًا آخر يزيد عِظَمها قدرًا، وهو أنها أمرٌ يتعلق بالروح دون الجسد. فكما جعل الله لعظماء الرسل معجزاتٍ ذاتيةً قائمة بذواتهم مثل بياض اليد لموسى - عليه السلام -، ومثل التكوُّن بدون أب لعيسى - عليه السلام -، جعل لمحمد - عليه السلام - معجزةَ الأمية معجزةً ذاتية متعلقة بالروح، أي النفس الناطقة التي هي أشرفُ ما في


(١) الهداية الإسلامية، المجلد ١١، الجزء ١٠، ربيع الثاني ١٣٥٨/ مايو ١٩٣٨ (ص ٤٣٣ - ٤٤١).

<<  <  ج: ص:  >  >>