للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومنها عفته ونزاهته. ومنها الوقار، والصون عن الابتذال في معاشرة القوم، وعدم الإكثار من الهزل والسخف، والفحش، والخفة والطيش. ومنها النزاهة عن الطمع في جر نفع من كلامه؛ فإن في ذلك نفرةً عن اتعاظ الناس بقوله وظِنَّةً في صدق دعوته، وقد قال السروجي بعد أن قام خطيبا:

لَبِسْتُ الْخَمِيصَةَ أَبْغِي الْخَبِيصَهْ ... وَأَنْشَبْتُ شِصِّيَ فِي كُلِّ شِيصَهْ (١)

[[عيوب الخطابة]]

ولقد يجدر بنا إذ بلغنا هذا الموضع أن نختمه بذكر بعضِ عيوب يكثر عروضها للخطباء ليتنبه المطالعُ إلى تجنبها. واعلم أنها تنقسم إلى فطرِيٍّ، وإلى مكتَسَب.

فأما الفطريُّ فمنه ما يمكن تجنُّبُه بكثرة الممارسة، نحو الحبسة عند التكلُّم، فقد كان عمرو بن سعيد بن العاصي البليغ الخطيب في أول أمره لا يتكلم إلا اعترته حُبسةٌ في منطقه، فلم يزل يتشادق ويعالج إخراجَ الكلام حتى مال شدقُه من كثرة ذلك، ولُقب لذلك بالأشدق، فقال فيه الشاعر:

تَشَادَقَ حَتَّى مَالَ بِالْقَوْلِ شِدْقُهُ ... وَكُلُّ خَطِيبٍ لَا أَبَا لَكَ أَشْدَقُ (٢)


(١) فذكر أنه احتاج إلى ستر مقصده بلبس الخميصة، والشِّص - بالكسر - هو السنار الذي يُصاد به. والشيصة واحدة الشيص، وهو نوع من السمك. وإنما خص هذا النوع بالذكر ليتأتى له التجنيس. - المصنف. الحريري: مقامات الحريري، ص ٢٢ (المقامة الأولى - الصنعانية).
(٢) الجاحظ: البيان والتبيين، ج ١/ ١، ص ٨٩ و ٢١٤. والأشدق هو أبو أمية عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي، من جيل التابعين. ولي المدينة لمعاوية وليزيد، وبايع عبد الملك بن مروان على أن تكون الخلافة له من بعده. فلما أراد عبد الملك خلعه من ولاية العهد خرج عليه وطلب الخلافة لنفسه. قتله عبد الملك سنة ٧٠ هـ بعد أن أعطاه الأمان. وهو غير عمرو بن سعيد بن العاص الأكبر، صحابي أسلم قديمًا، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة هو وأخوه خالد بن سعيد بن العاص ثم هاجر إلى المدينة. خرج في جند الفتح إلى الشام، ومات شهيدًا في معركة أجنادين مع الروم البيزنطيين في جمادى الأولى سنة ١٣/ ٦٣٤ أثناء خلافة أبي بكر الصديق.

<<  <  ج: ص:  >  >>